رئيس التحرير
عصام كامل

الطعام فيه «سم قاتل».. «زينب» تروي يوميات معاناتها مع الـ «بي كيو» | فيديو وصور

فيتو
«بقى أقصى طموح عندي ولادي ياكلوا زي أي طفل في سنهم».. كلمات تحمل حزنًا لا يمكن أن يتجاهله إنسان، حملها صوت «زينب» السيدة الثلاثينية، ذات بشرة سمراء واللكنة الريفية التي بأقل مجهود يمكن تمييزها من أول جملة تنطق بها، «زينب» جلبت ولديها من قلب الريف المصري إلى ضاحية بعيدة بالعاصمة حيث منطقة «التبة» بالحي العاشر، بحثًا عن طعامهم، فـ«زينب» التي تزوجت منذ عام 2007 في إحدى قرى مركز إطسا، التابع لمحافظة الفيوم، شاء القدر أن تنجب طفليها (فاطمة، وصالح) بمرض وراثي الـ «PKU» أو مرض التمثيل الغذائي الـ «فينيل آلانين» الذي أجبرها على ترك عالمها الصغير لتواجه عالمًا أكثر اتساعًا بحثًا عن  «الحمية الغذائية» المخصصة لهما.







«في البلد بدأ يظهر على أبنائي أعراض تشنجات وتعب وضيق تنفس، واتشخص ابني الأكبر صالح بوجود كهرباء في المخ، جيت مصر هنا بعد ما جسمهم ما استجبش للعلاج، وكشفت عليهم عند دكتورة وراثة هنا في القاهرة، وقالت إنهم مرضى بالبي كيو».

التأخر الذهني والعقلي هو ما ظهر على سلوك الطفلين، «صالح» حينما كان لا يزال في عامه الرابع وشقيقته في عامها الثاني، هذا لأن الأم لم تنتبه أو تعلم ما بهما، يأكلان ما يوضع على مائدة العائلة، تتدهور حالتهما عندما يقضمان قطعة دجاج أو يشربان بعض قطرات من الحليب، «فاطمة ما كانتش بتمشي وصالح ما كانش بيتكلم ومشيوا فترة على أدوية غالية لحد ما استجابوا لها بجانب جلسات التخاطب، وكل ده حصل لما جينا مصر».






ماهو الـ PKU ؟

الاسم العلمي للمرض هو الـ«فينيل كيتون يوريا»، أو الـ«فينيل آلاينين»، وهو مرض وراثي يطلق عليه اسم المرض «الاستقلابي»، وينتج عن وجود خلل في الجين المسئول عن تكوين الإنزيم الضروري لتحويل الحمض الأميني الـ«فينيل آلاينين» إلى حمض يسمى «تايروسي» والذي يتولى مهام تكوين ما يعرف بـ«النواقل العصبية» في المخ، ويصاب به طفل بين كل 10 آلاف طفل، وترتفع احتمالية الإصابة في حالة زواج الأقارب.

ويعد الـ«فينيل آلانين» من مكونات البروتين التي توجد في الأطعمة الغنية بالبروتين كاللحوم والأسماك والحليب بمشتقاته والبيض وبعض منتجات القمح، وتكون نسبة الإصابة به عالية إذا كان الابن لأبوين تجمعهما صلة قرابة، وتظهر هذه الأعراض منذ الأشهر الأولى للولادة، وتتراوح في حدتها وتكون أشهرها وجود رائحة عفن في الجلد والشعر بسبب تراكم الفينيل آلانين في جسم الطفل مريض الـ «بي كيو» كما توجد حساسية الضوء بسبب عدم تكوين صبغات في الجلد، وتقول زينب في هذا الشأن :«صالح كان لون شعره وعينه أصفر فاتح ودي كانت أول حاجة نلاحظها عليه وقت ولادته».

وجبات بأسعار خيالية

حينما أتت «زينب» إلى القاهرة، وجدت أن مشكلتها القديمة تفاقمت وبات من المستحيل الصمود أمامها طويلًا من أين ستأتي بالطعام والشراب للأطفال؛ أطفال محرومون من الألبان والجبن واللحوم والأسماك، ماذا يأكلون إذن؟! «المشكلة في موضوع الأكل لأنه غالي وإحنا مش قادرين نوفر اللي يكفيهم، والمستشفى مش بيصرف إلا لبن وعيش ومكرونة فقط، وربنا أكرمنا بدكتور والسيدة جيجي وفرت لنا المنتجات الآدمية اللي ممكن تكون في متطلبات أي حد، وأسعارها مناسبة وطعمها قريب من المكرونة بتاعتنا».

«جيجي».. كلمة السر ومفتاح لحياة جديدة خطت «زينب» وطفليها نحوها، وهي سيدة أربعينية أصيبت ابنتها الصغرى «نورهان» بالمرض ذاته، فقررت أن تساعد ابنتها وكل أسرة لديها طفل يحمل هذا المرض، فدأبت على التعاون مع دكتور متخصص يدعى «محمد» وبمرور الأيام أصبح لديها خط إنتاج كامل في مدينة السادس من أكتوبر فيه تُصنع مكرونة وأرز وكافة منتجات مرضى الـ«بي كيو»، وإلى مخزنها الكائن بمنطقة «السواح» في القاهرة تأتي زينب كل شهر لشراء كل ما يحتاج إليه الطفلان.

«ما يقرب من ألف جنيه، المبلغ المخصص لطلبات فاطمة وصالح على مدار الشهر، كانت نفسيتي بتدمر وأنا شايفة أولادي مش عارفين ياكلوا طبيعي زي أي حد، يمكن دلوقت الوضع أفضل وبقوا كويسين شوية، لكن في الأول قلت هنعمل إيه رضينا بقضاء ربنا مشينا على نظام الأكل لكن كانت الحياة صعبة وكنت بمنعهم عن كل الأكل وبقول لهم هو ده أكلكم ده غلط عليهم، كان بيعيط وأنا أحايل»، لا شعور يضاهي شعور هذه السيدة حينما تلمح طرف عيني طفلها واقعًا على قطعة حلوى أو بعض شرائح اللحم، «بقى أقصى طموح عندي ولادي يأكلوا زي أي طفل في سنهم».

والد «صالح وفاطمة» يعمل في أحد مكاتب الاستشارات الهندسية (عامل بوفيه) راتبه حوالي 2500 لا يكفي  لشراء دقيق وأرز ومكرونة ويدفع 1000 جنيه، كان الأمر في بدايته صعبًا على الأم، سيدة ريفية لا تعلم الكيفية التي يجب أن يكون عليها طعام طفلين يحتاجان إلى وحدات فقط في أي وجبة يتناولانها، ما يعني أن كل ما يأكلانه يخضع للكيل والميزان، «الدكاترة عرفوني أعمل الأكل إزاي وبقيت أخبز لهم العيش في البيت وأوفر ثمن الكثير من الوجبات، كل أم أصبحت طبيبة ابنها».

«لما دخلوا المدرسة كانوا بيقولوا لي ليه يا ماما مش بناكل الأكل ده زي أصحابنا، كنت بقولهم الأكل ده ضار عليكم ولو أكلتوه هيتعبكم بعدين وعنيهم بتطلب الأكل وما كنتش ببقى عارفة أعمل إيه، فاطمة كانت بتيجي تعيط وتقول لي البنت بتقول لي أكلك وحش لحد ما اتعلمت أعمل لهم كل الأكل في البيت».





الأيام نجحت في مداواة جِراح هذه الأم، لكنها لم تمح الأثر كاملًا، فالأم لا تزال تعاني تحت وطأة احتياجات أطفال لا يمكن سدها حتى لو توافر لهم ذلك، «الأكل مش بحطه في الثلاجة بعمل أكل على القد ليا ولزوجي والبنت الصغيرة لأنها كويسة مش مصابة، دايما بردد عليهم نفس الكلام الأكل ده غلط عليكم، لكن أنا كأم بحزن مش قادرة أتجاوز فكرة إن أولادي عايزين يأكلوا أي حاجة زي أي طفل ومش عارفين».

كورونا يحول دون متابعة حالة «فاطمة وصالح»

جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) التي ضربت مصر في مطلع فبراير من العام المُنصرم،  تركت أثرها في كافة جوانب الحياة، حتى حياة «زينب» التي تبدو من خارجها هادئة، اعتادت مرتين خلال الشهر الواحد أن تُجري للطفلين التحاليل لمعرفة نسبة الفينيل آلانين وتحديد نسبة الأطعمة من خلالها، ولكن بعد انتشار فيروس كورونا خشيت الأم على الطفلين، «بقيت أعمل لهم التحليل مرة كل شهرين، وتكلفته 150 جنيه، خائفة من كورونا معرفش النسبة حاليًا إيه لكن سايباها على ربنا، نفسي ربنا يكرم بالعلاج اللي يخليهم يأكلوا كل اللي نفسهم فيه»
الجريدة الرسمية