رئيس التحرير
عصام كامل

وداعا الفارس النبيل.. حافظ أبو سعدة!

خبر صغير عن "اختطاف" و"تعذيب" حافظ أبو سعدة.. كنت وقتها في المرحلة الثانوية أواخر الثمانينيات عندما كان خبر صغير في صحيفة "صوت العرب" التي أصدرها وترأس تحريرها الكاتب الصحفي الراحل عبد العظيم مناف.. كان الخبر يتهم أجهزة الأمن وقتها بإاتطاف الطالب بليسانس الحقوق حافظ أبو سعدة المسئول عن جمعية "الدراسات العربية" وهي أسرة جامعية ناصرية وجدت نفسها بين رحى الأمن من جانب والجماعات المتطرفة وفي مقدمتها "جماعة الإخوان" من جانب آخر.. ومتابعة الخبر في صحف الأهالي والشعب أكدت الإفراج عنه !


كانت المرة الأولى التي نسمع عنه.. لكن بقي الاسم في الذاكرة حتى التقينا بعد سنوات في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بمقرها علي كورنيش المنيل ثم بصحبته إلى أسيوط باعتبارها بلدي في مهمة حقوقية في ظل إرهاب مجرم أحال الحياة في الصعيد كله إلي جحيم! ثم صارت صداقة كبيرة بصيغة "الأستاذ والتلميذ" ظل فيها "الأستاذ" الذي نتعلم منه.. رافضا بتواضع طيب هذه الصيغة قابلا فقط بصيغة "الأخ الكبير" !

انتقل حافظ أبو سعدة من تلميذ تعتقله الأجهزة الأمنية استنادا لقانون الطوارئ إلى فاعل في حقوق الإنسان تدير معه الدولة نفسها مباراة طويلة النفس.. بهدوء أعصاب مرة.. وبانفعال مرة.. انفعال واحد منها أجبرته علي ترك مصر فجأة.. كانت وقتها افترقت المسارات وقلت اللقاءات ولكن لم ينقطع الود ولا الاحترام قط.. لكن نقول: فجأة تذيع وكالات الأنباء وبعض الفضائيات أنباء تؤدي إلي معني واحد هو مغادرة حافظ أبو سعدة مصر وإنه بصدد تشكيل معارضة من الخارج!

جهاز حماية المواطن !

كيف ذلك؟! متى ذلك؟! لماذا ذلك؟! لا نعرف اللهم إلا تضييقا جرى على حركة حقوق الإنسان أدت إلى ذلك.. وتوقعنا تصعيدا في الأمر سيصل إلى حدود سيئة خصوصا أن هناك في الخارج من يريد ذلك! لكن في اليوم التالي كان وفد رفيع يسافر ويلتقيه.. كان على رأس الوفد السيد زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية وقتها.. وفجأة تؤكد الأخبار عودة حافظ أبو سعدة لمصر وإعلان انتهاء الأزمة !!

كانت حقوق الانسان عند حافظ أبو سعدة ليست إلا فكرة نبيلة تأمل في سيادة دولة الدستور والقانون والحريات.. لا تعذيب ولا عنف.. وفي المقابل لا إرهاب ولا قتل ولا تفجير.. وأدى ذلك إلى المعادلة المثالية التي آمن بها وتوصل إليها أبو سعدة ورأيناه عليها منذ 2011 تقريبا وتجلت بعد 2013 ومفادها أن حقوق الإنسان فكرة نبيلة فعلا وشعبنا يستحقها لكن دون أن يكون ذلك على حساب الوطن.. تتلقي المنظمات الحقوقية تمويلا من الخارج نعم لكن تحت إشراف الدولة نعم أيضا.. التمويل ضروري لعمل الجمعيات نعم لكن من مؤسسات غير حكومية ولا تتدخل في التقارير نعم أيضا!

في الفترة الأخيرة شرفني حافظ أبو سعدة بمتابعة ما نكتبه.. وما نقوله هنا وهناك.. وكان كريما في التعليق أو في الحوارات الخاصة.. سعيدا بالدفاع عن ثورتي يوليو ويونيو والرد على أكاذيب محاولات تبييض عصر الاحتلال البريطاني.. وكان القدر وحده أن رتب لنا لقاءا تلفزيونيا علي قناة "صدي البلد" مع الإعلامي الكبير حمدي رزق لتحليل المرحلة الأولي من انتخابات البرلمان..

تحدثنا قبل الحلقة في موضوعات عديدة حتى سألني عن توقعاتي عن الانتخابات الأمريكية.. كنت أشعر بالحرج وأستاذي يسألني لكن جاوبت بعد استيعاب الحرج وقلت "بايدن سيفوز" وشعرت بصدمته! فأكملت: شرحت ذلك بشكل أوسع بحيثياته ورحت أذكرها له.. لكن ما هزني هو أن صدمته كانت في الأساس خوفا على وطنه من أي احتمال لأي مشاكل مع بايدن، وراح هو يقول مخاوفه!

أنا "بكره إسرائيل" و" باحب شعبان عبد الرحيم"!

وبعد الحلقة طلبت قناة أخرى أن تستضيفنا معا.. اعتذرت لأسباب خاصة ولكن سعدت لمجرد أن جمعتنا دعوة واحدة وإن لم تكتمل وقد عرفنا اليوم أن للقدر تصاريفه !

حافظ أبو سعدة.. الأستاذ والأخ الكبير لا يمكن أن تلتقيه أو تراه غير مبتسما.. وستراه خجولا بحياء نادر إن خرج أحدهم في المزاح عن الحدود الطبيعية.. ولا يتوقف عن السؤال عن أحوال أصدقاء أو معارف لا يتوقع أحد أنه يتذكرهم فبعضهم التقاه مثلا مرة واحدة !

كان حافظ أبو سعدة البراءة تسير على قدمين.. لن تجده طرفا بأي درجة في عمل مشين.. ولا في موقف يصنف في دوائر الخروج عن القيم.. وأراد الله في لقاء الوداع أن يعرف مكانته لدينا ولدى الكثيرين احترموه وأحبوه.. حتى بعض رفاق رحلة حقوق الإنسان وبعد أن وصل معهم إلى مفترق طرق معهم ظلوا يحترمونه.. وظل يؤدي واجبه تجاه شعبه ووطنه بحرفية لم تجرفه لأي خلاف أو صدام مع أحد، اللهم إلا الارهابيين المجرمين !

رحم الله حافظ أبو سعدة.. الأستاذ والأخ الكبير.. والذي كان خبر رحيله أمس مفجعا.. موجعا.. مؤلما.. قاسيا.. صادما.. انعكس بالحزن الشديد على الجميع بما فيهم الجمهور الذي لا يعرفه بشكل مباشر على شبكات التواصل.. ولكن إرادة الله فوق أي إرادة..
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته وخالص العزاء لأسرته.. زوجته شريكة رحلة الكفاح كلها.. طالبا وقانونيا بارزا.. ولكل أصدقائه وتلاميذه ومحبيه وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!
الجريدة الرسمية