الميثاق النبوي لقيم ومبادئ الأخوة الإنسانية
لا يخفى على أحد أن من مبادئ الإسلام ومقرراته الأساسية: أن الناس كلهم من أصل واحد وأنهم إنما جعلوا شعوبا وقبائل؛ ليتعارفوا ويتآلفوا، لا ليتقاتلوا ويتخالفوا، ويعتدي بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا, لا فرق في ذلك كله بين مسلم وغير مسلم؛ وهذا مما يؤكد احترام الإسلام وإعزازه للإنسان مهما كان.
ومن هذا المنطلق دعا الإسلام إلى برّ غير المسلم وإلى حسن التعامل معه؛ فقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) {سورة الممتحنة الآية 8}، وإعمالا لهذا المبدأ؛ فقد حرصت الدولة الإسلامية في معاملتها مع غير المسلمين سواء أكانوا من رعاياها أم من غير رعاياها على تنفيذ هذه المبادئ الإنسانية؛ لتكون نبراسا للجميع في جميع أنواع التعاملات التي تجري فيما بينهم؛ بالتمسك بالأخلاق الفاضلة في سائر المعاملات واعتبارها حقًّا لكل إنسان يستحقه بمقتضى إنسانيته..
الجماعات المتطرفة ورطتنا في مأزق كبير مع الغرب
حتى في مواقف القتال خوفًا من أن تندفع النفوس في حالة الحرب، فنهاهم المولى سبحانه وتعالى عن الاعتداء وعدم التجاوز, قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) {البقرة الآية 190 }، مع عدم التعرض للآخر بسوء، وصون اللسان عن سبه وشتمه وقذفه ، قال تعالى : (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) {سورة الأنعام من الآية 108}.
فضلا عن أمره تعالى للمسلمين بمجادلة غير المسلمين بالتي هي أحسن، فقال تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ){سورة النحل من الآية 125}، وقال سبحانه مخاطبًا نبيه موسى ونبيه هارون -عليهما السلام- وقد أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) {سورة طه من الآية 44}.
وإن كانت تعاليم الدين الإسلامي تحث المسلم على حسن معاملة غير المسلم؛ فإنه ينبغي على غير المسلم أيضا أن يحترم المسلم وألا يسبه، ويقلل من كرامته، وينتقص من عقيدته، فإن فعل فيكون مخالفًا لهذا الميثاق الذي يتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة الداعية إلى المحبة والتآلف بين الناس، لا الكراهية والبغض والتنافر والاختلاف فيما بينهم.
ثم ما الفائدة التي ستعود على غير المسلم عندما يسب الإسلام لاسيما نبي الإسلام سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم-؛ غير تعميق الكراهية، وزيادة البغضاء، واتساع العداوة فيما بينه وبين المسلمين، خاصة إذا كان في منصب رفيع المستوى كرئيس دولة أو رئيس وزراء.. بالإضافة إلى خسارته نفسه أولا بعدم احترامه للفطرة الإنسانية الداعية لمكارم الأخلاق، وتقليله من قدره الرفيع.
ثانيا عند أصحاب الوعي والفكر والثقافة من أبناء العالم أجمع بتجاوزه الآثم في حق نبي من أنبياء الله –تعالى-؛ لأنهم يعلمون جيدا أن المسلم يقدر ويحترم جميع أنبياء الله – تعالى- لاسيما نبيه سيدنا موسى، ونبيه سيدنا عيسى –عليهما السلام- وأنه لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالإيمان بهما وببقية الأنبياء – عليهم السلام-، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) {سورة البقرة من الآية 285}.
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولو أنه قرأ واطلع على سنة من يسبه ويشتمه؛ لعلم أنه لم يتبع الأصول العلمية والمنهجية في النقد، ولتمنى أن يكون طالبا في مدرسة الإسلام؛ ينهل من علومها، ويتأدب بأدبها، ويسير على أخلاقها، فلم يكن النبي-صلى الله عليه وسلم – سبابا ولا لعانا، و لا فاحشا في القول مثل من يسبه ويشتمه ليل نهار، حتى مع غير المسلمين ممن سبوه وشتموه وآذوه بسوء الكلام وأفحشه وتمنوا له الموت، بل كان في غاية الاحترام والتقدير مع الجميع، يملك نفسه ولا يتجاوز في حق أحد..
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن السيدة عَائِشَةَ – رضي الله عنها- قَالَتْ: أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ» قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا عَائِشَةُ «لَا تَكُونِي فَاحِشَةً» فَقَالَتْ: مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ: "أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمِ الَّذِي قَالُوا، قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ " يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»، كما أخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: " لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا ".
فهذه مدرسة الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم – والتي تدعو لنشر الخير والسلام بين الناس ، وتحث على صون الأعراض من الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال، فياليت الجميع يتعلم منها فلا يتطاول على أحد، ولا ينتقص من إنسانية أحد؛ حتى يسود الحب بين الإنسانية، وتعم الأخلاق الحسنة في التعاملات بين الجميع؛ اقتداء بفعل النبي – صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة، والذي وصفه ربه –تعالى– بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) {سورة القم الآية 4}، ومن ثم أرسله رحمة وهداية للعالمين فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ){سورة الأنبياء الآية 107}.
صلى الله عليه وعلى آله أجمعين