رئيس التحرير
عصام كامل

جهاد الهبر !

قابلنى بالصدفة فى أحد قطارات الغلابة منذ عامين قبل حلول فيروس كوفيد 19 لأرض المحروسة، كنت قادما من القاهرة لدمنهور، و كان هو قادما من الجيزة لمحطة رمسيس، رجل بلغ من العمر أرذله، تنير تجاعيد وجهه ابتسامة بشوشة رغم الفقر الواضح على هيئته..


جلست أمامه فى العربة التى أخذت فى الازدحام رويدا رويدا، ولكنه خفف عنا كآبة الحشر بلطيف حديثه عن أى شىء يراه أمامه أو حتى يتخيله، أو كلمة يلتقطها من فم محشور فى كرسى وراءه أو أمامه!

صمت قليلا، ثم التقط خيط الحديث ليجدله وفق ما يريد عندما تحدث أحد الركاب عن ارتفاع أسعار اللحوم، و بكل تلقائية قاله له : عاوز تاكل لحمة، تعالى معايا يا ابنى ، التفت الرجل إليه و أصغى الجميع إليه بما فيهم العبد لله، اللحم والهبر  أسهل شىء ممكن أن تحصل عليه فى هذا البلد، تعالى معى جاهد فى سبيل الله وستأكل لحوما كثيرة بلا عدد.. مدد من عند الله و أحبابه مدد!

تقيحات المترفين الجدد
للوهلة الأولى، ظننت أن الرجل جهادى تكفيرى ومقاتل أجير عن إحدى جماعات التطرف، ولكن أى غباء هذا الذى صور لى تلك الفكرة البلهاء و أنا أرى رجلا تجاوز العقد السادس و لا يستطيع حمل رغيف عيش وليس بندقية، ثم إن الجهاديين المزعومين لا يركبون قطارات الغلابة، ولا تضطرهم الظروف لذلك، و إذا بالرجل يوضح قائلا:

أنا أتجول فى كل موالد مصر أجاهد فى سبيل الله وأذكر الله يوميا بجوار الأحباب, كنت فى مولد سيدى محمد هنا فى أرياف الجيزة ورايح على طنطا لمولد سيدى أحمد البدوى وبعد منه حأطلع على دسوق، وبعده على مولد أبو الريش فى دمنهور.. اللحمة هناك فى الموالد بتجينا لغاية عندنا وبناكل هبر من كل نوع من أهل الله..

شفتوا يا ولاد الجهاد حلو إزاى.. لو اللحمة غالية عليكم تعالوا معايا، أهل الخير من أحباب الأولياء لن ينسوكم، ستنسون غلاء اللحمة وستملون منها، مع إن أنا بصراحة لا أمل من الهبر.. مدد يا سيدى أحمد!

هكذا كان حال الفقراء من رواد حلقات الذكر فى الموالد والتى كانت، ومازالت، تمثل كرنفالا شعبيا للبسطاء رغم توقفها هذا العام بسبب الخواجة كورونا.. ملتقى متعدد الأغراض والأطياف فى كافة قرى ونجوع ومدن مصر الكبرى منها والصغرى، ولقد كنت كثيرا أنتقد تلك الموالد من منظور دينى أصولى فقط، حيث إنها تعج بكل الموبقات الأخلاقية تحت شعار حب الأولياء..

ولكنها كانت أيضا منفذا لبعض الغلابة والمهمشين والمشردين لتناول الطعام الذى يجود به مريدو الأولياء والموتهمين فى ولايتهم وقربهم ومعجزاتهم السرمدية, هؤلاء المتوديين لحبهم المطلق فى عالم الغيب من خلف أسوار الدنيا المحدودة!

مولد أبو الريش

كان مولد أبو الريش فى دمنهور فرحا ومهرجانا شعبيا، أو عند البسطاء أسبوعين من البهجة والتصوف وقلة الأدب أيضا، وقلة الدين، والتطويع المصرى لكل قيمة وعكسها بمنتهى اليسر، فأصحاب الثلاث ورقات، ومنصات القمار يتباركون بالولى الصالح المُنسب الشريف حتما أو توهما، بينما هم يمارسون أحط المهن، والضمنجى الذى يقف مع صاحب المنصة ويكسب دوما فيخدع السذج والبلهاء، فيدفعهم دفعا لخسارة ما معهم من قروش قليلة أو حتى جنيهات مبروكة، كان دوما يصلى على النبى عند المكسب الزائف المتفق عليه!

هل أتاك حديث تلك المعلمة!
حالة تستحق الدراسة والتأمل الدينى والاجتماعى، وكنت أمر على هؤلاء أشاهد الميلودراما الشعبية مادامت الفرجة مجانية، وحدث أن حاولت يوما أن أنبه أحد الضحايا إلى خدعة القمارتجى والضمنجى وأشرت لأحدهم على الورقة الصحيحة، فما كان من الاثنين إلا أن أشهرا لى مطواة جميلة رقيقة، فانسحبت وقلت يا فكيك..

ومن يومها تبت عن متابعة هؤلاء فى المولد واتجهت فى ذهابى ورواحى اليومى إلى متابعة السيرك و المبجل العظيم بريلو الإيطالى الذى كان يلعب الموتوسيكل فوق الجدار الدائرى الخشبى بكل مهارة، وأيضا كان هناك راقصات الدرجة الثالثة مع الساحر، ثم توقفت كثيرا أمام هذا السيرك لا لمتابعة الراقصات الفاتنات، ولكن لأن المشوبش أو شاويش المسرح, كان يقف على مقدمة المسرح من الخارج متغنيا بأبيات من الشعر كانت تمثل لى طلاسم وأنا طفل فى الابتدائى، ربما كنت حينها 10 سنوات أو أقل قليلا..

فالرجل بدلا من أن يقول : قرب قرب ومتع عينك يا غلبان كعادة من يجاورونه، إذا به يغنى أبيات عمر الخيام، كما علمت بعد ذلك بسنوات، يقول للزبائن السهيرة: أفـــق خفـــيف الــظل هذا السـحر نادى دع الـــــــنوم وناغ الوتر
فــــما أطـــال الـنوم عـــــمراً ولا قصر فى الأعمار طول السهر !
هكذا كان المشوبش مثقفا وحافظا لشعر الخيام الذى ترجمه من الأردية أحمد رامى للست أم كلثوم و لحنه عملاق النغم السنباطى !
و للحديث بقية بإذن الله .
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية