ابن السوداء
ربما تستطيع قراءة هذا المقال دون النظر لديانة كاتبه على الإطلاق، تخيل أنك أيضا بلا دين وبلا عقيدة ولكنك قبل أى شىء، إنسان، ثم قرأت تلك الوقائع المثبتة تاريخيا، حينها ستدرك أمورا كثيرة كانت غائبة عنك، أبسطها أن هناك دينا لا نعرفه، ربما يدين به كثير من البشر اسما ولكن فى جوهره هو غريب عن الكثير منا، وربما غير موجود، أو فى أفضل الأحوال موجود وجودا طقسيا شعائريا عند من يعتنقونه (اسما) فقط!
إنك امرؤ فيك جاهلية!
فى السيرة النبوية الشريفة، واقعة مختلف على أحد أطرافها، ولكنها صحيحة ومثبتة، والعظيم فيها هو السمو غير المسبوق فى تاريخ الإنسانية، والترفع عن التعالى عن الآخر مهما كان شانه، فلقد حدث أن عير الصحابى الجليل أبو ذر الغفارى إنسانا بلون أمه وقال له يا ابن السوداء.. فغضب الرسول الكريم وصدح بالحق الذى علمه إياه ربه، ولم يجامل أحد الصحابة الكبار الذى كان سببا فى إسلام قبيلة غفار بأكملها، ووصفه بأنه به بقية من جاهلية!
اقرأ أيضا: ليته كان عربجيا!
هكذا بكل بساطة بليغة وبغير تعقيد للأمور انتقل الصحابى المسلم لحقبة الجاهلية المقيتة، والتى جاء الإسلام ليخلص العالم منها، جاهلية تميز بين البشر وفقا لجنسهم ولونهم وقبيلتهم وعقيدتهم، وكل هذا مرفوض مطلقا من صاحب الرسالة السماوية الخاتمة، وإذا كان البعض اختلف عن أن الذى تم تعييره بأمه هو سيدنا بلال أو خادم كان عند أبى ذر أو حتى عبد عنده..
فالمعنى يزداد رقيا وتقدمية حقيقة وتساميا عن أحقر ما اخترعه الإنسان وهو العنصرية، فبلال كان عبدا حبشيا مملوكا لأحد أئمة الكفر وعندما حرره أبو بكر الصديق، تحدث المسلمون (التقدميون بحق) حينها عن أن سيدهم أعتق سيدهم.. نعم تحول بلال بالعمل الصالح والتقوى لسيد على من كان عبدا تحت أقدامهم فى الجاهلية، وتسيدهم أبو بكر الصديق بخلقه النبيل وحسن عمله لا بشىء آخر.. هل هناك تقدمية عرفها العالم أكثر من تلك!
اقرأ أيضا: ابن البيضا
ثم تمر قرون طويلة وسنوات ينقلب العالم فيها إلى مجرد وجود جاهلى ملىء بالعنصرية البغيضة، والتى لم تنجح كل مواثيق الأمم المتحدة فى القرن العشرين من اجتثاث روحها الخبيثة المنتنة من نفوس الكثيرين حول العالم ليومنا هذا، وذلك لسبب بسيط وهو عدم ربطها عقائديا بالدين، فالدين عندما يتمكن من القلب ويصدقه العمل يصير واقعا وحقيقة لا تحركها الأهواء.
خادما!
فى الرواية الأخرى يقول بعض الرواة والمفسرون أن أبا ذر كان يتحدث مع خادم وليس مع بلال فماذا كان قول الرسول الكريم له، قال النبى له "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".
هذا ليس خيالا، بل هو جوهر الدين، المساواة والإنتصار للضعفاء ولكرامتهم وإنسانيتهم، ولفظ الطبقية والاستعلاء الأجوف على البشر بسبب فقرهم أو حاجتهم إليك، إذا كان عندك خادم فهو أخ لك ومساو لك فى كل أمورك المعيشية، له حق الحياة، وله الاحترام والتقدير مثل من يعمل عنده، لا إسلام لمن يستعبد غيره أو يهدر من كرامته وقيمته البشرية..
اقرأ أيضا: وراء كل مهرجان انكسار (2 )
هل هناك إنسانية أعظم من تلك، هل هناك مساواة عرفها العالم أرقى من التى قرأتها الآن، حتى وإن كنت غير مسلم، سيجبرك الحق فى ذاته والرفعة فى أسمى معانيها على احترام هذا الأمر النبوى المفروض على المسلم من قبل صاحب الرسالة.
هل عرف العالم حماية للمستضعفين مثل هذا الميثاق الذى فرضه نبى السلام، هل مقتل جورج فلويد فى أمريكا بسبب لونه الأسود كات ليحدث إن كان هؤلاء عرفوا تلك القيم وأمنوا بها.. اسأل نفسك وأجب حتى وإن كنت غير مسلم، حتى وإن كنت مسلما اسما تتعالى على من هم أضعف منك وتسلك مسلكا طبقيا بغيضا يفضى إلى عنصرية (منتنة) كما وصفها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.
fotuheng@gmail.com