عبدالمطلب ليس أول من غناها.. وأعيد تصويرها في الثمانينيات لهذا السبب «رمضان جانا».. قصة النشيد الوطني للصيام
دون سائر دول العالم صنعت مصر "نشيدا وطنيا" للصيام يلهب المشاعر والروحانيات وهي أغنية «رمضان جانا» للمطرب الشهير محمد عبدالمطلب.
النشيد الوطني لرمضان
رمضان جانا.. وفرحنا به/ بعد غيابه.. وبقاله زمان/ غنوا وقولوا.. شهر بطوله/ غنوا وقولوا أهلا رمضان/ رمضان جانا.. أهلا رمضان .
منذ نصف قرن وتحديدا منتصف ستينيات القرن الماضي كان الفن المصري يعيش واحدة من أنضج فتراته وأكثرها زخما وقوة وخلالها عرف العالم العربي والإسلامي واحدة من الأغاني التي خلدت نفسها في التاريخ لدرجة أن شهر رمضان لا يمكن التنبؤ بهلاله دون سماع هذه الأغنية التي باتت واحدة من أهم مظاهر الاحتفال به.
في ليلة رمضان تسمع كلمات الأغنية تشدو في كل مكان تتوق لليوم التالي تستمع إلى صوت عبد المطلب تتصور وكأنه إشعار رباني بقدوم واحد من أفضل الشهور الإيمانية وكأنه دار إفتاء متحركة داخل كل بيت وأسرة يعلمها تلقائيا أن الوقت قد حان للاستعداد يضخ فيهم مشاعر مختلطة بين الحنين للماضي والذكريات يعيشها المغترب يلمسها الحالم بأنفاس أسرته وذويه وعادات المجتمع القديمة التي نضبت مع سيطرة التكنولوجيا والمادية على كل شيء.
تغيب علينا وتهجرنا.. وقلوبنا معاك/ وفى السنة مرة تزورنا.. وبنستناك/ من إمتى واحنا بنحسبلك.. ونوضبلك ونرتبلك/ أهلا رمضان جانا.. قولوا معانا/أهلا رمضان جانا.
كواليس الغناء
أغنية رمضان جانا لها قصة مثيرة تفسر لماذا أصبحت جزءا من طقوس الصوم التي لا تنتهي ولا تحدد بزمن وكان اختيار عبد المطلب صاحب الصوت الرخيم والفنان بالتخصص في الإبداع بالمقطوعات الفنية التاريخية على شاكلة "ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين" التي تعيش في وجدان المصريين حتى الآن كان له دلالة كبرى لتعيش الأغنية على مر السنوات دون أن ينطفئ وهجها.
المثير أن عبدالمطلب ليس أول من غناها بل ومن حظه أن كواليس قبوله لها كان لأسباب مادية بحتة خاصة أنه لم يكن متخصصا في الغناء الديني وعلى الأغلب صنفها كذلك عندما عرضت عليه ولهذا اختار لها جلبابا ريفيًا ومجموعة من الفتيات يرتدين ملابس الريف ويغنين بالفوانيس حتى تأخذ خصوصية شعبية مصرية وتحظى بشهرة أوسع من غلق مساحة التعرف عليها في نطاق ديني لم يعتاده عبد المطلب ولا حتى المصريون آنذك.
المطرب الأصلي
يقول الأرشيف الفني إن أشهر أغنية عن رمضان قدمها قبل الفنان محمد عبدالمطلب بنحو عقدين من الزمان مطرب مغمور اسمه محمد شوقي ولحنها له سيد مصطفى وظهرت للنور لأول مرة في 2 رمضان من عام 1362 هجري الموافق 2 سبتمبر عام 1943 م ولم تقترب من شهرة الأغنية التاريخية آنذاك والتي كانت تستحوذ على اهتمامات الجماهير المصرية والعربية وهي «وحوي ياوحوي» للمطرب الشهير أحمد عبدالقادر.
شيء ما كان يجعل مؤلفها حسين طنطاوي يعتقد أنها تستحق أفضل من ذلك ولا يمكن أن تنتهي على هذا النحو وبالفعل قدمها إلى الموسيقار محمود الشريف الذي اقتنع بها للغاية وحاول بدوره الاستفادة من شهرة عبدالقادر وخبرته في توظيف ملكات صوته للعب على مقامات الأغاني التي تلامس المشاعر الدينية فرفض عبد القادر وتحجج بعدم حاجته لتقديم جديد عن رمضان بسبب رصيده السابق الذي يعتلي به الوسط الفني.
واقترح عليه أن يقدمها إلى مطرب غيره فلم ينتظر محمود الشريف الكثير من الوقت وربما لم يرضه رد "عبدالقادر" وساقته الظنون أن يكون المبلغ المالي المخصص له 6 جنيهات فقط لم يلق قبوله خاصة أن إجمالي الإنتاج المخصص للأغنية بالفرقة الموسيقية بكل شيء لم يتجاوز 20 جنيهًا ولم يكن هناك قدرة على تخصيص المزيد سواء له أو لغيره.
عبد المطلب
وعلى الفور اختار لها صديقه محمد عبدالمطلب وخاصة أنهما عملا معا من قبل ولحن له رائعته «بتسأليني بحبك ليه» وكان نجاحهما الساحق سببًا في هرولة شركات الإنتاج خلف عبدالمطلب وتسجيلها على أسطوانة وكانت أحد أسباب شهرته.
وفي هذا التوقيت كان عبدالمطلب يعيش تخبطا كبيرا على المستوى المادي لأسباب عدة على الرغم من امتلاكه خبرة طويلة في الإنتاج وكانت لديه شركة مع زوجته نرجس شوقي فوافق على الفور.
واستغل عبدالمطلب هو الآخر خبرة الموسيقار محمود الشريف في التعامل مع هذه المقامات الموسيقية وكان الشريف وقتها ملء السمع والبصر بسبب تلحينه نشيد الله أكبر الذي حصد نجاحا ساحقا آنذاك واختير فيما بعد نشيدًا رسميا للمملكة الليبية عام 1955. سجل "عبدالمطلب" الأغنية وأصبحت مثل النشيد الوطني لشهر رمضان بحسب تعبير الناقد الفني أحمد السماحي وأفضل من كتب هنا وأرخ لها.
البساطة
ويرى السماحي أن البساطة والعذوبة والتكوين الطبقي لصوت عبدالمطلب سر خلود الأغنية حتى الآن وهو أيضا الدافع لإعادة تصويرها مرة ثانية في تمانينيات القرن الماضي.
وعن كواليس الأغنية يقول السماحي: إن فريق العمل استغرق في تصويرها لأول مرة 3 أيام وكان ذلك في نهاية شهر شعبان وتم عمل المونتاج لها ليلة الرؤية وبعد إذاعتها حصلت على شعبية هائلة ليس في مصر فقط بل وفي سائر أنحاء الوطن العربي واختيرت المشاهد بعناية لتعبر عن المذاق الروحي للشهر الكريم.
ولهذا جرى تصويرها مرة أخرى في الثمانينيات بالألوان ولكن لم تحصل على خصوصية المشاهد الأولى التي أذيعت بها لتبقى من أهم معالم الشهر الكريم وتجعل لصوت عبدالمطلب موعدا سنويا مع الأجيال المختلفة سواء من يهوى الأبيض والأسود ويعرفه أم لا.
نقلًا عن العدد الورقي..
