تأملات فى التنين والفيروس.. والبطاطا!
سطعت شمس السبت، وانحسر الظلام.. قبلها بليلة من الخميس وطوال ليل الجمعة كنا فى معية مباشرة مع صاحب الملكوت. كنا متلامسين تقريبا مع النهاية.
بصرك اليوم حديد. ذلك يحدث حين يكشف الله عن العيون غطاءاتها. ترى ما خلف الحجب. ما وراء الستار. ترى الغيب. كشف الحساب الختامى. حصيلة الرحلة. أبيض أو أسود. جنة أو جحيم. جلاء الرؤية يقع قبل جلاء الأجل بوقت خاطف. كلنا عشنا هذا الموقف الكاشف الرهيب.
تهيأ الناس فى مصر لقضاء عدة ليال مشحونة بدراما التعامل المباشر مع السماء فى أقسى تجلياتها، واستعانوا على ذلك بأكياس اللب والفول السودانى واليوسفى والقرفة والشاي وبعضهم بالمكسرات.. بعضهم.. بعضهم أقول!
اقرأ أيضا: العالم فى خطر
لما حل الظلام على البيوت وهى بعد في ساعات الصباح الأولى، وخيمت السحب الداكنة محملة بالغضب، انقبضت الصدور، ولما أفرجت السحب عن خزائن أمطارها سيولا متصلة، بدأنا نتساءل عن اللحظة الكبرى لظهور التنين. نسينا لثمانية وأربعين ساعة الفيروس كورونا. وكما ترقبنا مجيء التنين وتعزز علينا رحنا نستدعيه لنتعرف عليه.
جاء التنين أمطارا ووحلا.. وهواء يمضغ الشوارع والميادين التى خلت، يكنسها، ويمتزج بالمياه التى ملأتها و كل الحفر. من عجب أن الفولكلور الإلكترونى هو من أطلق وصف التنين على عاصفة توقعوها إعصارا. لا كانت عاصفة ولا كانت إعصارا. نريد فحسب أن نعيش حالة أعاصير هوليوود. لسنا بحجمها قدرة ولا خسائر.
اقرأ أيضا: تركيا وروسيا.. مواجهة محتملة!
مزاج شعبى سوداوى متقلب. حسنا جاءت الأمطار ثقيلة داهمة فاختبرت البنية الأساسية اختبارا كاشفا، تبين أن التجمع بؤرة مركزية لفساد مقاولات محمد إبراهيم سليمان. أتذكرونه؟ لعنات كثيرة سقطت على رأسك يا وزير الغبرة!
تبين أن الاستهتار والاستسهال وتبادل المفاسد لا بد أن يأتى يوم وتنكشف جميعها. هطلت اللعنات كما هطلت الأمطار على رأس كل لص فاسد كان مسئولا أو لا يزال، لا يراعى الله فى عمله.. يغش الناس ويبيعهم المظاهر الكاذبة بينما هم مع المطر الثقيل انقلبوا إلى الحياة في بيوت هي بيارات مياه.. وربما مكهربة!
لم يخل المشهد من بطولات وشهامة، كما لا يخلو الليل عادة من نجمة تلمع، تمنح الأمل. تنشر الضياء فى النفوس. ظهرت مجموعات من الشباب فى مختلف الأحياء يمدون يد العون لكل من حاصرتهم المياه الفيضانية داخل سياراتهم أو تعطلت بهم السيارات فى الأنهار والبحيرات التى صنعتها الأمطار.
اقرأ أيضا: شيء من الكرامة.. أخيرا
(نصف مليار متر مكعب وفق بيان الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء، وأربعة ونصف مليار متر مكعب مياه سقطت على القاهرة والجيزة بحسبة الدكتور نادر نور الدين العالم فى الزراعة والموارد المائية).
شباب التجمع من أصحاب العربات العالية الجيب وغيرها سخروا هذه السيارات لإنقاذ المحاصرين والمرضى والكبار والإطفال. تهيأوا بمعدات وملابس وتجهيزات لدور وطنى إنسانى نذروا أنفسهم له بلا مقابل. تضررت سيارة أحدهم.. الشاب الشهم شريف خيرى. ستصلحها الهيئة العربية للتصنيع تقديرا وتشجيعا وعرفانا.
هؤلاء الشبان قدوة فى حب بلدهم وشعبهم ولم يترفعوا ولم يبخلوا بما منحهم الله من إمكانيات عن توظيفها في عمل الخير.. نعم. فيها حاجة حلوة. حلوة جدا.
من ناحية أخرى قدمت الحكومة نموذجا قويا فعالا إلى حد كبير، ربما لأول مرة، فى العمل المخطط لمواجهة غير مسبوقة مع تغير مناخى قاس لم تعرفه مصر. بات من المؤكد أن مناخ مصر لم يعد حارا جافا صيفا دافئا ممطرا شتاء. هذا كان زمان فى كتب الابتدائية والإعدادية والثانوية حتى عام ١٩٧٠ربما!
اقرأ أيضا: مجلس إدارة الفوضى
كما تغير الناس إلى أسوأ تغير المناخ إلى أسود. من أفعالنا سلط علينا. نسينا إذن الفيروس؟ كلا.. تلهينا عنه بعض الوقت، ورحنا نتابعه فى أوروبا يضربها بقسوة في إيطاليا وأسبانيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. ثم.. ثم عبر الأطلنطى والهادي ليضرب أمريكا من المحيطين شرقا وغربا.
عندئذ عرف ترامب الله.. ودعا إلى التضرع إلى الله وإقامة الصلوات. هو إلتقى مصابين وربما مصاب وسيفحصه أطباء قريبا كما قال.
انحسر المطر عنا وسطعت الشمس وغاب التنين لكن رأس الفيروس النانو.. المتناهى الصغر.. الحقير.. تطل على الناس كرؤوس نووية مهلكة. هل يعود الناس إلى ربهم وإلى صوابهم وإلى تسامحهم؟
فلنسرع بالعودة وإلا داهمنا الله بالتنين وبالطين معا... نندثر تحتها كأمم غفلت وطغت وظلمت. ما أحلى رائحة البطاطا الساخنة وشكلها الذهبى ودخان العربة البدائية يتصاعد وورقة ملفوفة من يد بردانة تقدم لك كوز بطاطا مفتوح الصدر.. تلتهمه حتة حتة.
فيها بطاطا حلوة.