الكمامة.. والقمامة!
لا يعرف المصريون داخل مصر ثقافة منع الفيروسات عن الأنف والفم. لا يعرفون الكمامة. لكنهم بالتأكيد يعرفونها في مواسم الحج والعمرة، لأن المواطن يذوب وسط ملايين ومئات الألوف من شتى بقاع الأرض.. هوت أفئدتهم إلى بيت الله ومسجد رسول الله.
اليوم، وبدون حج وبدون عمرة.. أصبح الحديث عن الكمامة حديثا عن طوق النجاة المحتمل، رغم أنها ليست الحل الحاسم ولا العلاج النهائي، هى مانع محتمل، حاجز محتمل حتى الآن هو حديث.. لأن الفيروس القاتل لا يزال بعيدا ولا يزال قريبا، فى أية لحظة من بلدنا، اللهم احفظه واحفظنا.
والحق أن المصريين محتاجون، منذ وقت بعيد، الى الكمامة لأن القمامة السلوكية واللفظية والمظهرية صارت سلة أوبئة مدمرة للبنية الأخلاقية للمجتمع، نحن لا نضع الكمامة على الأنف ولا على الفم، لأننا صرنا جزءا جوهريا من البيئة الملوثة، بل نحن صانعوها، ونحن مستهلكوها.
اقرأ أيضا: كلنا ركاب.. كلنا كمسارية!
نحن نلوث المجتمع بالألفاظ القذرة الفاضحة، بالأم وبالأب.. وبالعرض.. الوشوش المكشوفة ليست بحاجة للكمامة.. لأنها بذاتها قمامة. نحن نلوث المجتمع وننشر فيه فيروسات الموت البطيء، بالتدين المظهرى.. ملايين يذهبون إلى المساجد.. ومنهم من يرتشى.. ويذبح ويكذب.. ويبيع الوطن..
نحن نلوث المجتمع باستخدام الجهلة لتنوير الأجهل منهم وقتل المستنيرين بجلطات الغيظ والكمد.
الكمامة المعلقة على العقل المصرى متأففة من التدنى الذى طرأ على نفعية هذا العقل، وعلى عفونة خططه ومؤامراته للنيل من عقول شريفة ممتلئة بالعلم والنور والتحضر والنزاهة.
كمامات كمامات كمامات.. على العقول وعلى القلوب كمامات.. حجزت ما وراءها، بما هو عليه ومنعت ما خارجها بكل مافيه.. هل تتخيلون الصورة الكاملة؟ المجتمع كله مفيروس.. إلا من سما به ربه!
كمامة هائل الحجم مطلوبة بحجم مساحتنا، بحجم عددنا.. بحجم العيب الذى حط علينا وسكن فينا دون أي شعور بأنه عيب وخيانة وقذارة وسرقة وتعصب وجهل وجرأة على العلماء.. وتفضيل الدون على العقلاء!
المصاب أولى بالكمامة.. نحن مصابون فى أعز ما نملك.. مصابون فى أخلاقنا، وفى ديننا وفى أولادنا وفى بيوتنا.. علينا أن نواجه أنفسنا، علينا أن نفيق من هذه الغيبوبة الجماعية، يوجد من يموت من أجلنا لكى نتخمر أمانا داخل شرانق اللامبالاة.. وداخل كباريهات العربدة فى الشوارع.. لم تعد الملاهى وحدها حظائر الباحثين عن لذة أو الهاربين من عذاب خارج أسوارها.. إلى نعيم النسيان بفعل المسكرات.. طرقاتنا نهب للمجانين ولا رادع ولا وازع.
اقرأ أيضا: متعة إذلال أصحاب المعاشات
شوارعنا نهب للبلطجية من سائقي التكاتك يحميهم منعدمو الضمير استأجروهم ليزدادوا مالا.. فيعربد المتكتون باسمهم وتحت شاراتهم وراياتهم. الذى ربى أولاده على قلة الأدب والتبجح وتبرير السرقة هو فى حد ذاته فيروس.. ولا تجوز معه الكمامة ولا غيرها.. بل لا بد من اعادة التأهيل.
يعاد التأهيل فى المؤسسات العقابية عادة، لكنها فى الحقيقة مؤسسات تعميق العدوانية بما يتعرض له المدان من صنوف القهر والعدوان البدنى والنفسي داخل العنابر والزنازين. هل سنحبس المجتمع كله؟ ومن سيقوم بالمهمة إلا ملاك؟ لا يوجد الآن ملائكة على الأرض.. لكن يوجد قانون معطل أو مغفل أو مخدر أو منزوع مفتاح التفعيل. أو خاضع للمزاجية.. ساعة يعمل وساعة لا يعمل. وهو قانون انتقائي..
ذلك سبيل مضمون بلا أدنى شك إلى الوفاة العامة. ليس شرطا أن يقع احتضار وموت فعلى.. كم من أحياء بيننا اليوم يمشون فينا وهم يحملون موتى فى قبور الصدور.. ضمائرهم.
حزين أنى أكتب هذا الحزن. حزين أنى أرسم هذه الصورة القريبة من الواقع المهشم حولنا. لقد ضربنا فيروس أعتى من كورونا وكل عائلة كورونا. أصابنا.. ولا شفاء منه إلا بشق الصدور ونبش القبور وطرد الوباء..
لا شفاء إلا بالتسامح والمساواة وإنهاء حالة التربص والتحفز والإعجاب بمن خربوا وهدموا ومكافأتهم وتتويج الجهلاء! ضع الكمامة الآن.. الفيروس يتململ ليخرج.