ليس من حق القاضي الحكم بالسياسة
دعنى اقُل لك بصراحة انني انزعجت من الديباجة السياسية المكتوبة في حيثيات الحكم في قضية التمويل الأجنبي. فالأمر أمام القضاء وبين يدي القضاة لا يجب أن يكون له علاقة له بالسياسة، ولا علاقة له بالموقف السياسي للقضاة الأجلاء الذين اصدروا الحكم. واذا كان هناك موقف سياسي مساند للتمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية، أو معادٍ له، فيجب أن يكون خارج قاعات المحاكم.
فمن ضمن الحيثيات المزعجة أن عمل المنظمات "استعمار ناعم" و"شكل من اشكال السيطرة والهيمنة" و" زعزعة استقرار الدولة واضعافها وتفكيكها". وأضافت الحيثيات أيضًا " النظام البائد قزّم من مكانة مصر الإقليمية والدولية وانبطح أمام المشيئة الأمريكي" و" مد جسور التطبيع مع إسرائيل" و"اختراق الأمن القومي المصري".
الأمر هنا لا يتعلق برفض القارئ الكريم للتمويل الأجنبي أو الترحيب به. فهذا سجال يمكن أن يحتدم ويدور خارج ساحات القضاء. ولكن عندما يدخل إلى القضاء فهذه كارثة ، لأنه يعني أن القضاة الأجلاء يحكمون وجهات نظرهم السياسية وليس القانون. وهذا ضد العدل.. لماذا؟
أولًا لأن هذا يعني أن القاضي إذا مثل امامه من يوافقه في موقفه السياسي، فسوف ينال براءة أو يتم على الأقل تخفيف الحكم ضده. واذا جاء أمامه من يختلف معه سياسيًا فسوف يتم ذبحه بعقوبات مبالغ فيها أو قاسية.
ثانيًا أن التعبيرات التي اخترتها من الحيثيات، هي في الحقيقة ليست تعبيرات قانونية ولا علاقة لها بالقانون. وهي تذكرني بالديباجة الطويلة العريضة التي قالها القاضي الجليل الذي حكم على مبارك ورجاله. وخطورة الأمر هنا أن هذا يجعل القضاء يبتعد عن وظيفته الأساسية وهي تطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة. أي ضمان العدل للجميع بمن فيهم "الفلول" الذين وصفهم القضاة في هذه القضية بـ " النظام البائد قزّم دور مصر.. الخ. وهذا معناه أن أي مصري منتمّ إلى النظام السابق لن ينال العدل وسوف يتم العصف به، لأن القضاة لهم موقف سياسي مسبق. والعكس طبعًا صحيح إذا كان القاضي متعاطفا أو مؤيدا للنظام السابق.
ثالثًا أعيد التأكيد على أن الأمر لا علاقة له برفض أو قبول التمويل الأجنبي. ولكن جوهر الأمر هو العدل، فكيف يمكننا الاطمئنان إلى أن القاضي سيطبق القانون وحده. وهو يتهمهم دون دليل من القانون بالخيانة والعمالة.. الخ.
اخيرًا أدعو من يرفضون التمويل الأجنبي للتحفظ على هذا الحكم. لأنه إذا شجعه، فسوف يأتي يوم ويقع امام قاضٍ منحاز ضدك وضد قناعاتك ، ومن ثم يذبحك مثلما ذبح غيره من قبل من تختلف معهم سياسيًا