البردونى.. معاق تجاوز العجز
للشاعر اليمنى الكفيف عبدالله البردوني أعمال أدبية متنوعة، فديوانه الأول صدر عام 1961 في القاهرة بعنوان « من أرض بلقيس ».. ثم أصدر بعده « في طريق الفجر» و« مدينة الغد » و« زمان بلا نوعية »، وتقلد الشاعر أوسمة كثيرة كوسام الأدب والفنون في عدن وحصل على جوائز أدبية رفيعة كجائزة مهرجان أبي تمام بالموصل في العراق وجائزة شوقي وحافظ في القاهرة، وفي عام 1982 أصدرت الأمم المتحدة عملة فضية عليها صورته كمعاق تجاوز العجز.
ترك البردوني دراسات كثيرة، وأعمالاً لم تنشر بعد، أهمها: السيرة الذاتية، البردوني موسيقار عاشق، في أشعاره، لحن قصيدته العمودية على إيقاعات البحور المشهورة « كالبسيط والخفيف والرمل والمتقارب والكامل والطويل والسريع والمتدارك » وبعض المجزوءات .
أدخل البردونى الموسيقى إلى شعره عن طريق الحوار، والسؤال، حيث يتوارى صوت الأنا المفرد ويظهر الصوت والصوت الآخر، فيعلو الجرس الدرامي ويخفق الحس الغنائي ويتم التعبير بالحوار والمقابلة عما كان سيقرر ويطرح دون جدال يرفعه هو إلى درجة تسمح للقارئ الفضولي بالتجسس على الشعر في حس سريالي مبكر - مبتكر يتجنب المباشرة في الخطاب مع المتلقي، كما شاع في شعره التكرار المتعلق بصوت القافية أو الحروف المتشابهة أو أسلوب رد الإعجاز على الصدور، فوصل إلى موسيقى الكلمة الداخلية قبل السعي إلى الموسيقى الظاهرة والخارجية كما في قصيدته الفاتح الأعزل التي يفتتحها بقوله:
ساه، في مقعده المهمل: كسؤال ينسى أن يُسأل
ويختتمها بقوله:
فيعود بشكل ما ألغي.. أو يمضي يمحو ما شكل
يصف الدكتور سالم عباس خدادة.. موسيقى البرودني بأنها " نهر متدفق حينا وبحر صاخب حينا آخر، حمل في كلا الحالين سفائن شعره، والمرأة حاضرة بقوة ثم غائبة في شعر العاشق الكفيف".
في مجموعته الأولى « من أرض بلقيس » بلغ عدد القصائد التي يمكن إرجاعها إلى علاقة البردونى بالمرأة «30» قصيدة من أصل «54» قصيدة موزعة على «8» دواوين، كتبها الشاعر في حياته.
ثاني قصائده في المجموعة الثانية "في طريق الفجر"، «10» قصائد في مدينة الغد، «5» في «لعيني أم بلقيس».. قصيدتان في السفر إلى الأيام الخضر.. قصيدة واحدة في وجوه دخانية في مرايا الليل.. قصيدتان في ترجمة رملية لأعراس الغبار.
ولا توجد أي قصيدة غزلية في المجموعة الأخيرة.. كائنات الشوق الآخر.. في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الإثنين 30 أغسطس.
في دراسة أكاديمية هادفة لسبر أغوار الشاعر عبد الله البردوني.. قال الدكتور وليد مشوح: إن كان الشاعر فقد بصره، فإنه كان يلتمس الواقع من خلال بصيرته النافذة في أعماق الجنس البشري، وذلك باعتماده على حواسه المرهفة، التي استطاعت أن تتعرف على الواقع، وأن تتوغل في تفصيلاته، حيث اختار المؤلف المنهج النفسي لدراسته النقدية، مصرحًا بالأعباء التي تثقل كاهل أي دارس أكاديمي أو متابع لمسيرة التطور الشعري عند البردوني من خلال المشايعين والمناهضين.
مضيفًا: لم يكن البرودني وحده الأديب الذي أصيب بالعمى وأبدع، فقد سبقه كثير من المبدعين العرب كـ «بشار بن برد وطه حسين وأبوالعلاء المعري»، وكانت لهم بصماتهم في مدى الأدب النوعي، ولكن البردوني كان يحمل السمات النفسية، حيث كان مشاكسًا وثائرًا وأحيانًا مهادنًا ومصورًا بارعًا لبيئته، وما يختلج فيها من صراعات وعادات وتقاليد..
عندما سئل البردوني عن كيفية إحساسه بالجمال.. قال: ليس هناك حس بالجمال المفصول عن الدمامة، وإنما هناك معرفة اختلاف الجميل عن نقيضه، إذ لا يتجلى وجه الجمال إلا إلى جانب وجهه النقيض.. فالنور في شعر البردوني.. هو السيد الحاكم، وهو الذي يلوّن أحاسيسه، وينمقها ليطل من خلالها على الحياة، التي يعكسها بأصباغ روحه وفكره.
ومن الصور الجميلة التي لها دلالة بالنور من خلال خياله ماديًا وحسيًا، إذ يرى الزهر يحتضن الشعاع، كما تحتضن أم طفلها وتقبله:
الفجر يصبو في السفوح وفي الرّبا
والروض يرتشف الندى ويغرّد
في مهرجان النور لاح على الملا
عيد يبلوره السنا ويورد
امتاز البردوني بذاكرة عقلية، موضوعها المعاني والأفكار والصور اللفظية حيث تشكلت شخصيته.. ووضحت سماته ومعالمه.. استنادًا إلى إمكاناته الذهنية، لقد استطاع أن يخلق صلة بينه وبين المحيط الذي يعايشه، فكانت ألوانه سماعية وحروفه صوتية:
لأني رضيع بيان وصرف
أجوع لحرف وأقتات حرف
أتسألني كيف أعطيك شعرًا
وأنت تؤمل دورًا وجوف
أصوغ قوامك من كل حس
وأكسوك ضوءًا ولونًا وعرف
وغدًا.. نكمل مسيرة الأعمى الذي رأى كل شىء..