رئيس التحرير
عصام كامل

على قدر أهل "الزعْم

فيتو

عادت مصر لتشغل الناس وتملأ الدنيا، فالأحداث التي تعصف بها وتهدد سلمها الأهلي هي من أولويات مجهر الرّصد والمراقبة سواء في الإقليم أو على مستوى دولي، لكن هذا الانشغال بمصر ليس الدليل على عودة دورها الإقليمي الفاعل، فثمة دول غير عربية في الشرق الأوسط حاولت أن تشغل الفراغ الذي أحدثته مصر في سنواتها العجاف حيث الأزمات الداخلية من اقتصاد مريض وعشوائيات وبطالة ونزاع أهلي شغلت مصر عن أي شيء آخر، رغم أن للجغرافيا والتاريخ ضغطاً لا يمكن تجاوزه قدر تعلق الأمر بالموقع والموروث السياسي وما يسمى القوة الناعمة التي تتسرب عادة من خلال الثقافة والآداب والفنون .

كانت مصر ذات يوم تنام ملء جفونها ويسهر الخلق جراها ويختصم، لكن ما ألمّ بها لم يكن وعكة عابرة، أو مجرد حمى سياسية متوسطية تدوم أياماً أو أسابيع فقط . وما دمنا في ذكر أبي الطيب المتنبي الذي له صولاته في أرض الكنانة ومديحه وهجاؤه لكافور الاخشيدي، فإن ما قاله عن قدر أهل العزم في زمانه وزمان سيف دولته لم يعد كذلك اليوم بعد أن تنكر الكثير من الأعراب لعروبتهم ومنهم من خلع الجلد وحاول أن يجري جراحة للوشم في ذاكرته، كي يصبح كتلة صمّاء من لحم بشري، ويتقدم بطلب انتساب إلى نادي العولمة، لكن بلا جدوى، فالمصريون يقولون في أمثالهم الشعبية التي تقطّر خبرات أجيال “مين فات قديمه تاه” .
والتّيه الآن ليس فصلاً من ميثولوجيا أو قصيدة من طراز الملاح التائه، إنه سياسي وفكري، والبوصلة إن لم تكن معطوبة فثمة شكوك في دقتها، لأنها أحياناً تتجه غرباً وهي تريد الشرق أو تجنح نحو الشمال وهي تقصد الجنوب .
إذن، يحدث أحياناً العكس فتكون الهزائم لا العزائم على قدر أهل الزعم وليس العزم . وطوبى وألف طوبى لهذه اللغة الشاسعة والأوسع من قارة لأنها هبة الصحراء لبدوي قرأ في كتاب الكون قبل أن يقرأ في أي كتاب آخر .
وفي تلك السنوات العجاف التي ألمّت بمصر كان الدكتور يحيى الجمل قد كتب مقالة مفعمة بالأسى بعنوان “مصر التي في خاطري”، وهو عنوان أغنية لأم كلثوم . قلت يومها للدكتور الجمل إن مصر في خطر قبل أن تكون في الخاطر، وذكرت له ما كتبه الشاعر الوالي نصر بن سيار إلى الخليفة من خراسان وهو أقصر برقية في تاريخنا، فالشاعر رأى تحت الرماد وميض جمر، وقال: “ي،شك أن يكون له ضراماً” .
لكن زمن البرقيات المحمولة في أعناق الحمام الزاجل ولى وأخذ معه تلك الهواجس عن غزاة يسيل لعابهم ولعاب خيولهم على التخوم والثغور، واليوم في زمن تكشف فيه التكنولوجيا أحشاء السلحفاة تحت صدفتها لا نرى أبعد من أنوفنا لأننا نعمل لدنيانا على طريقة لا تقربوا الصلاة وكأننا نعيش أبداً . . لكننا لن نموت غداً أو حتى القيامة .
لقد شغلت مصر الناس وملأت الدنيا وهي تبني سداً يروي ظمأ الصحراء، وهي تؤمم قناة ماتت ألوف مؤلفة من أبنائها وهي تحفرها، وهي تشيد مصانع الحديد والصلب وتمد اليد سخية بالمال رغم شحته والسلاح إلى ذوي القربى بدءاً من الجزائر .
لكن مصر الآن تشغل الناس بعدد القتلى والجرحى في مظاهراتها وبعدد الاعتصامات في ميادينها وشوارعها وساحاتها، وتشغل الناس أيضاً باعلاناتها الدستورية المتعاقبة التي تجاوز عددها حلقات أي مسلسل طويل سواء كان تراجيدياً أم كوميدياً أم بَيْن بَيْن .
فعلى قدر أهل الزّعم لا العزم تأتي الهزائم يا أبا الطيب .
نقلاً عن الخليخ الاماراتية
الجريدة الرسمية