رئيس التحرير
عصام كامل

الملك الحقيقى


وحش القارة السمراء، معبود الملايين ومبتلع القرابين تستمد منه مصرنا الغالية المعني والحياة، ويستمد هو منها الهيبة والوقار (سابقا)!، هو كيان حي يشعر ويتألم وأحيانا كثيرة يبكي ويذمجر وعندئذ يعلن غضبه فتنسحب الحياة من مصر ويسقط عنها رداء المعني.. فتتهاوي أركان الإنسان المصري ويبدأ في الزوال، وهنا نقف جميعا في رهبة ورعب لنتأمل أصعب اللحظات التي عبرت عبورا ثقيلا في سماء تاريخ مصر ولو أطلقت لقلمي العنان لاقشعرت النفوس من هول المشاهد التي يرويها لنا التاريخ حينما يغضب النيل، وللقارئ الحرية في أن يتصفح هذه الفترات الرهيبة بنفسه، فالتاريخ زاخر بالكثير من الأهوال المرتبطة بغضب الوحش، هو الحاكم الحقيقي لمصر يخشاه الكل ويلتمس منه المعونة، لا يوجد حاكم جلس على عرش مصر وتجاهله أبدا، فالحكيم هو من يحترمه بل ويقدسه فكما كان الفراعنة يقدمون له القرابين البشرية كذلك كان الحال مع كل طغاة وملوك مصر اللاحقين يقدمون له كل ما يستطيعون كي يتجنبوا غضبه المهلك، فقد تسلط على قلب الداهية أحمد بن طولون فتحير في أمره وأخذ يبحث وراء أسراره حتي آخر أيام حياته، وكانت له الكلمة الأخيرة في زوال حكم الإخشيد من مصر، وقد حاول الحاكم بأمر الله أن يتحايل على غضبه فأوكل للعالم الجليل الحسن بن الهيثم بتنفيذ مشروع بناء السد فقام الأخير بتجهيز الرسومات المطلوبة واختار مكان لم يبعد كثيرا عن المكان القائم فيه السد العالي اليوم ولكن فجأة ارتابه الشك في مدي دقة حساباته ودخل إلى قلبه الرعب من انتقام الحاكم إذا ما فشل المشروع، فقرر أن يختفي من وجه الوحش وهرب من مصر تحت جنح الظلام، وهنا يأتي الدور على أبشع المشاهد التي يرويها تاريخنا على وجه الإطلاق.. إنها (الشدة العظمي)، هذه الأيام التي لن تمحي من ذاكرة مصر وإذا أردت أن اختزل الوصف فلا أقول سوي أن الجحيم بكل أهواله كان حاضرا في تلك الأيام، لن أتوغل أكثر من ذلك فأنا بشر وقلمي يقشعر كلما اقتربت من هذه الأيام الرهيبة، وقد أظهر النيل غضبه الشديد أيضًا على جحافل جيوش الملك لويس التاسع وحسم المعركة لصالح لمصر وأُسر الملك (القديس) وأخذت أمه الملكة بلونش أعظم ملكات أوربا تتسول بين الممالك كي تجمع له ما تفديه به، وكان هذا هو خط الضوء الذي أنار سماء المجد لجنس المماليك، ثم تحول إلى الوحش الذي ابتلعهم جميعا في آخر أيام مجدهم وملكهم لمصر، إذا هو قائم بقوة في كل صفحات تاريخنا العظيم وله دائمًا نصيب الأسد، وعلي الوجه الآخر نجده دائما هو الأب الحنون والحضن الدافئ للمصري البسيط يرعاه ويحيطه بسبل الاستقرار والازدهار فيغازله المصري بباقة من الاحتفالات الأسطورية التي صمدت لآلاف السنين ولاتزال باقية في داخلنا حتي الآن، تعلن بوضوح أن كرامة مصر الحضارية تكمن خلف هذا السر العظيم الذي دونه ما كان لمصر أن تكون. 

أما اليوم فقد أصبح من الضرورة القصوي أن نقف بموضوعية أمام منطق الضمير الغائب في داخلنا لنري العبث يتصدر المشهد بجدارة ويهيمن على كل مقدراته بل ويذهب بمصر إلى هذا المجهول المخيف الذي ُيبعث فقط حينما يغضب هذا الوحش الحنون، ولن يكون القادم يوما للحساب بل القادم هو يوم للفناء.
الجريدة الرسمية