بيزنس الوطنية!!
لا يغُرَّنك هتافُ القوم للوطن؛ فالقومُ فى السرِّ غيرُ القوم فى العَلنِ، قالها الشاعرُ العراقىُّ "معروف الرصافى"، الذى غادرنا قبل 75 عاماً بالتمام والكمال. وإنَّ من الشعر لحِكمة، وإنَّ من الشعر لسِحراً، فهذا البيتُ الذى صاغه صاحبُه قبل قرنٍ من الزمان، يُجسِّد حال العرب عموماً الذين يتعاملون مع "الوطنية" باستخفاف يصل إلى حدِّ الاستظراف. العرب أكثر الأجناس حديثاً عن "الوطنية"، رغم أنَّهم أصحابُ الحقوق الحصرية فى كل الخيانات التاريخية!
خلال الأيام الماضية "مثلاً".. وتزامناً مع تعقُّد الملف الليبى، وإعلان الديكتاتور التركى "أردوغان" توجيه مرتزقته المأجورين نحو ليبيا.. تحوَّلت منصَّات التواصل الاجتماعى فى مصر إلى ميادينَ للهتاف وادِّعاء "الوطنية"، والهتاف للوطن بالروح والدم "الافتراضيين" بطبيعة الحال.
بدا الأمرُ مُفتعلاً مكشوفاً فاضحاً مفضوحاً، لا سيَّما أنَّ كثيراً ممن ملأوا حساباتهم الخاصة عبر المنصَّات المختلفة بهذه الهتافات "الافتراضية"، لم يُضبطوا يوماً فى خندق الدفاع عن الوطن، بل كانوا ولا يزالون الأكثر استنزافاً له، واستفادة منه، دون غيرهم.
اقرأ أيضا: للإسلام .. ربٌ يحميه
أحدُهم من المرتبطين بعلاقة وطيدة مع قضايا الفساد، منذ سنوات طويلة، ولم يعرفه الناسُ إلا مُداناً موصوماً، استأجرَ مَن يكتب له مقالاً طويلاً، يغازلُ به الجيش المصرى، ويتظاهرُ فيه بـ "وطنية زائفة"، وعمَّمهُ بعلاقاته على عديد من الوسائط الإعلامية، متوهماً أنه بذلك يغسلُ تاريخه المشبوه الموصوم الذى يعرفه القاصى والدانى، وأولهم مَن كتب ويكتب له، ومُتخيلاً أنه بذلك صار وطنياً وجندياً مُخلصاً، وأنه غدا حامى الحِمى، فيما هو جالسٌ "متكوَّم" بـ "كرشه" الضخم المتضخم، خلفَ مكتبه الفخيم الأنيق!
كثيرون ممن تسابقوا فى إعلان وطنيتهم عبر الفضاء الإلكترونى، وأبدوا استعدادهم "الافتراضى" للقتال، ورددوا: "خلِّى السلاح صاحى"، تورطوا فى قضايا ضد "الوطنية"، مثل: التحايل على مصلحة الضرائب بإقرارات وهمية؛ للتهرب من سداد حق الدولة، فهل من يتهربون من "حق الدولة" وطنيون، وهل من حقهم بعد هذه الإدانة القاطعة ادَّعاء "الوطنية" من وراء حجاب؟
البيانات الصادرة عن مصلحة الضرائب فى السنوات الأخيرة كشفت عن أن من قدموا أغانى وأفلاماً وطنية هم أكثر الناس تهرباً من الضرائب.. فبأى وجه تخدعوننا بوطنيتكم الزائفة الآن؟
اقرأ أيضا: على هامش تغيير "المحافظين" وتعديل "الوزراء"
إنَّ أقنعتكم المتنوعة والمتعددة قد تُمكنكم من خداعنا فى أعمالكم الفنية، بعض الوقت، ولكن لا تتوهموا أنها قادرة على إقناعنا بوطنيتكم وإخلاصكم لتراب هذا الوطن، طوال الوقت.
الوطنيون الحقيقيون ليسوا مَن يطلقون هتافاتهم وصرخاتهم فى الفضاء الإلكترونى، ولا مَن يُجيدون القفز على الحبال، ولا مَن يتماهون مع كل نظام، ولا مَن يأكلون على كل مائدة، ولكنهم من يبذلون الغالى والنفيس، من أجل وطن يتربص به المتربصون، وما أكثر الوطنيين الذين قدموا خدماتٍ جليلةٍ لهذا الوطن، ولم يسمعْ بهم أحدٌ، ورحلوا فى هدوء، بعيداً عن هذا الاسترزاق الرخيص، والادعاء الزائف.
الوطنيون الحقيقيون ليسوا مَن يتهربون من أداء الخدمة العسكرية، ومَن يبحثون عن "الواسطة وكروت التوصية" ويحتالون من أجل إبعاد أبنائهم وذويهم عن أداء هذا الواجب الوطنى، ولا من يطيرون بزوجاتهم الحوامل إلى الخارج؛ ليحظى صغارُهم بحنسية أجنبية.
واقرأ أيضا: أنا و"نوبل" وهواك!
اتركوا الوطن لخير أجناد الأرض، فإنهم قادرون على الحفاظ على مقدراته، مهما تكاثر الأعداء. اتركوه للمرابطين على الحدود، اتركوه لمن لا يستخسرون أرواحهم فى سبيله، اتركوه لمن يعمل من أجل نهضته وتقدمه ورفعته ورفع رايته خفاقة فى كل محفل، كلٌّ فى مجاله.
الفاسدون والمرتشون والمنافقون وآكلو السُّحت لا يحمون أوطاناً، ولا ينبغى لهم الحديث عن "الوطنية"؛ لأنَّ بينهم وبينها بُعد المشرقين وبُعد المغربين، كما أنَّ لهذا الوطنِ ربَّاً يحميه، وجيشاً يحفظ ترابه.. أيها الزائفون المزيفون الراقدون خلف حواسبكم وهواتفكم الذكية.. ادخلوا جحوركم؛ فهى أولى بكم، وتحدثوا فيما يليق بكم، واتركوا "الوطنية" لأهلها وذويها.