سطوة "السوشيال ميديا" والضمير الغائب!
قبلَ أيام.. كانتْ "السوشيال ميديا" قاسماً مشتركاً فى قصتين إنسانيتين. الأولى: بطلاها جِدٌّ ثمانينىٌّ وحفيدُه الكفيفُ الطالبُ بإحدى الكليات الأزهرية. والثانية: بطلُها أربعينىٌّ قضى مُعظم عمره فى "قفص حديدى" بإحدى المناطق المُتاخمة لوسط العاصمة!!
وفى توقيتٍ مُتزامنٍ تقريباً.. تداولتْ مواقعُ التواصل الاجتماعى القصتين، وتلقفتهما البواباتُ الإلكترونية والصحفُ الورقية، وتعاملتْ معهما بما يليقُ، حتى رقَّ قلوب القاطنين فى الأبراج العاجية بوزارة "التضامن الاجتماعى"، وتحركوا إيجابياً، وقدموا لهم العون المؤجل سريعاً ولم ينسوا بطبيعة الحال أن يلتقطوا الصور التذكارية مع الأطراف الثلاثة للقصتين المأساوتين، كما قدمت جامعة الأزهر الشريف تيسيرات أخرى لـ"الحفيد الكفيف".
اقرأ أيضا: إنتي أى كلام !
والسؤالُ الأولُ الذى يفرضُ نفسه: ماذا لو لم يتم تداولُ الواقعتين عبر منصَّات التواصل الاجتماعى؟ الإجابة: لاستمرتْ المأساتان، حتى إشعار آخر.
والسؤالُ الثانى: ماذا لو طرق أبطالُ القصتين مُنفردين أبوابَ وزارة "التضامن الاجتماعى"، هل كانوا سوف يجدون من "يُحسن" استقبالهم، ومن "يُحسن" الاستماع لهم، ومن "يُحسن" تلبية طلباتهم المشروعة؟! الإجابة وعن تجارب عديدة: بالطبع لا! تلك هى الحقيقة المُرَّة، والواقع الأليم؛ فما أكثرَ تلك القصصَ المأساوية التى يعجزُ خيالُ المؤلفين عن تخيُّلها.
اقرأ أيضا: "الحُصَرى".. قارئٌ عابرٌ للقارات والعصور
فقراءُ مُعدمون، ومُشرَّدون بائسون، يعيشون بين ظهرانينا، نقابلهم فى الشوارع والميادين وعلى الأرصفة وفى وسائل المواصلات، وكثيرون منهم لا يسألون الناس إلحافاً، مثل: "الجد والحفيد وساكن القفص الحديدى"!
هل يقتصر دور الجهات المختصة بقضاء حوائج الناس وتيسير حياتهم، على "ردِّ الفعل" لما يتم تداوله عبر الوسائط الإعلامية؟ لماذا لا تأخذ زمام المبادرة بتقديم يد العون لمن عدموا الحيلة وفقدوا الأمل، بدلاً من الانتظار والتقاط الصور التذكارية برفقتهم؟ هل جامعة الأزهر الشريف لم تكن تعلم بحالة الجد العجوز وحفيده الكفيف، فترفقَ بهما وترحمَهما، وهى أهلٌ لذلك؟
إنَّ الفائدة الأعظمَ من منصَّات التواصُل الاجتماعى تتمثلُ فى إبراز مثل هذه النوعية من القصص الإنسانية والمأساوية، وتوصيل أصوات أصحابها واستغاثاتهم إلى أولى الأمر، ومَن يملكون بـ "جرة قلم" تخفيف الكرب عنهم، لا سيَّما فى ظل حالة الخمول والكسل التى تجتاح كثيراً من وسائل الإعلام، بما فيها المرئية، التى أصبح مُعدوها يعتمدون بشكل أساسى على ما تحمله "السوشيال ميديا" لهم!
إنَّ الحصول على مساعدة عاجلة من وزارة "التضامن الاجتماعى"، أو إنجاز قرار على نفقة الدولة من وزارة "الصحة"، وما شابهَ، أمرٌ عسيرٌ على أولى الكرب والحاجة، وبدون "واسطة" تبقى الأبواب موصدة بـ"الضبَّة والمفتاح"، والوجوهُ كالحة، والقلوبُ قاسية كالحجارة أو أشد قسوة، الأبوابُ لا تُفتحُ، والوجوهُ لا تبتسمُ، والقلوبُ لا ترقُّ إلا أمامَ الكاميرات!
واقرأ ايضا : "ميخائيل" آخر.. يُنشِدُ في حُبِّ الرَّسُولِ "2"
يتعامل الموظفون بالجهات الحكومية المختلفة مع "هؤلاء البائسين" بتعالٍ مُسنفزٍ، وبرودٍ لا يُوصَفُ، وكأنَّما ينفقون من أموالهم الخاصة، ولا تزالُ واقعة إجبار موظف "التضامن الاجتماعى" لأستاذ جامعى متقاعد، تجاوز التسعين عاماً، على الصعود إليه فى الطابق الخامس، لإنجاز أوراق خاصة بصرف معاشه، حاضرة فى الأذهان، وشاهدة على جبروت نوعية رخيصة من الموظفين منزوعى الضمائر!
يغفل العاملون فى وزارة التضامن الاجتماعى، وجميع الجهات ذات الصلة، عن أدوارهم الإنسانية التى يجبُ عليهم الاضطلاعُ بها، ويتعاملونَ معها بـ"منطق وظيفى بحت"، فلا ينبغى عليهم أن ينتظروا ما تحمله إليهم الوسائط الإعلامية المختلفة، وهم مرابطون داخل مكاتبهم؛ حتى يتحركوا، ولا ينبغى أن يكون الحصول على خدماتهم المشروعة عبر "وسيط" أو "واسطة"، بل يجب أن يبادروا بأنفسهم بالتعامل مع مثل هذه النوعية من القصص الإنسانية الصعبة.
يجبُ على وزارة "التضامن الاجتماعى" وجميع المؤسسات الحكومية انتهاج سياسة جديدة أكثر مرونة ورحمة فى التعامل مع الفقراء والمساكين والمعدمين والمرضى والمشردين ومن تقطعتْ بهم السبل وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رحبُتْ. لا تضاعفوا أوجاعهم، ولا تزيدوا من آلامهم، فيكفيهم ما أصابهم من ابتلاءاتٍ.. يا سادة..ارحموا مَن فى الأرض يرحمْكم مَن فى السماء.