"إنتى أى كلام"!
قبل عام.. انشغل رواد مواقع التواصل الاجتماعى بأغنية "إنتى أى كلام". هذا اسم الأغنية وليس تقييمَها. الأغنية اسمها "إنتى أى كلام"، وكلماتُها تقول: "إنتى أى كلام".. فقط ، لا أكثر ولا أقل. ورغمَ تفاهةِ الفكرة، ورداءة العمل فى كل تفاصيله..
إلا أنَّ الأغنية –إذا جاز وصفُها بالأغنية- حققتْ مشاهداتٍ مليونية على موقع الفيديوهات "يوتيوب". وبين عشية وضُحاها.. تحوَّل صاحبها إلى نجم يُشار له بالبنان. وحلَّ ومعاونوه ضيوفاً على برنامج المذيعة التى جعلت يوماً من "البرادعى" زعيماً ومُنقذاً، ومن "وائل غنيم" ثائراً ومُصلحاً.
من المؤكد أنَّ "أم كلثوم" و"بليغ حمدى" و"أحمد شوقى" لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا، ولو علموا بأمر هذه "التحفة الفنية" لانتحروا حزناً وكمداً فى قبورهم، ولأعلنوا ندمهم على ما بذلوه من سهر الليالى فى نظم القصائد وتلحينها وغنائها! قديماً خدعونا بقولهم: "من طلب العُلا سهر الليالى"، والواقع الحالى يؤكد : "من طلب العُلا.. غنَّى: "إنتى أى كلام".
اقرأ أيضا: للإسلام .. ربٌ يحميه
الذائقة المصرية تعرضتْ، خلال السنوات الماضية، للتجريف والتخريب، عن قصد وسوء نية، حتى إنَّ "عملاً تافهاً شائهاً" يمكن أن يستحوذ على اهتمام الملايين، ويتحول صاحبه منزوع الموهبة والقيمة إلى نجم "سوبر ستار".
قبل 12 عاماً تقريباً.. حضرتُ تدشين صحيفة جديدة، ففوجئتُ برئيس التحرير يقول نصاً للمحررين المحتشدين أمامه مُتباهياً بغبائه، ومتعالياً بتليفونه الجديد ومعطفه الجلدى الأنيق : شعارنا فى الصحيفة الجديدة هو: "العمق فى الهيافة للوصول إلى القيمة"!!
"إدينى فى الهايف وأنا أحبك يا فَننس".. هذا هو شعار المرحلة. "الهيافة" أصبحتْ طوق النجاة، وأقصر الطرق لتحقيق الشهرة والثراء السريعين.فى الفكر والثقافة مثلاً.. أكثر الكتب رواجاً تلك التى لا تقدم شيئاً، أو تلك التى تُشبه أغنية "إنتى أى كلام". وأكثر الكُتاب انتشاراً أدناهم موهبة وإبداعاً، وأكثرهم سُخفاً، وأثقلهم ظلاً، أو من تشبههم أغنية "إنتى أى كلام".. وقِسْ على ذلك البواقى!!
فى ستينيات القرن الماضى.. لم يحقق فيلم "الناصر صلاح الدين" الإيرادات المنتظرة وأفلستْ منتجته "آسيا"، فى الوقت حصد فيه فيلم كوميدى خفيف مثل "سر طاقية الإخفاء"، الذى عُرض بالتزامن معه، إيرادات خيالية، وهو ما يحدث الآن؛ فأكثر شركات الإنتاج ربحاً من وهبتْ نفسها للقبح والرداءة والدناءة!
معظم ضيوف برامج الـ "توك شو"، إمَّا ممثلة هابطة، أو راقصة خارجة قبيل ساعاتٍ من السجن بعد إدانتها فى "قضية آداب"، أو أحد إفرازات المرحلة الحالية بكل تجلياتها، أو من يشبهون أغنية "إنتى أى كلام"، وهؤلاء مَن يتصارع عليهم المعدون، وتدفع لهم القنوات أجوراً خيالية. وعندما يتعلق الأمر بعالم جليل أوكاتب كبير أو مثقف مُعتبر، فإنَّ القنوات ذاتها حينئذٍ تدعى الفقر والإفلاس.
واقرأ أيضا: المثقفونَ .. والمهامُّ القذرة!!
رسائل الماجستير والدكتوراه الأكثر ذيوعاً تلك التى لا تقدم جديداً، ولا تضيف إلى المكتبة الجامعية شيئاً، أو التى تتلامس مع أغنية "إنتى أى كلام". أكثر الأكاديميين حضوراً فى وسائل الإعلام، واقتناصاً للمناصب، هم لصوص الرسائل والأبحاث، أو منتحلو الألقاب العملية، والذين يشبهون أغنية "إنتى أى كلام".
أكثر الشيوخ احتكاراً للمنبر والقِبلة ووسائل الإعلام، أدناهم علماً وقبولاً وموهبة ولباقة، ومن تنطبق عليهم أغنية "إنتى أى كلام"!
اقرأ أيضا: أسطول سيارات المسؤولين!!
"شكوكو".. طيَّب الله ثراه ترك لنا قولاً مأثوراً وحكمة بليغة نصُّها: "مشينا فى الجد اشتهينا السيجارة..مشينا فى الهلس بنينا عِمارة"، وأغنية "إنتى أى كلام" تطبيق عملى وواقعى وحرفى للحكمة "الشكوكية".
أنا شخصياً قررتُ الاتجاه لكتابة الأغانى خلال المرحلة المقبلة، وقد اعتكفتُ سنواتٍ ثلاثاً حتى خرجتُ بأغنية مختلفة يعجز عن إبداعها الرعيل الأول من مؤلفى الأغانى.. أمّا الأغنية وكلماتها فتقول: "إنتى ولا حاجة".. وإنَّا لمُنتظرون.