اعتذار ملكي
لم تكن تجربة الملكية كنظام سياسي في إسبانيا مدرجة في النطاق التقليدي للتجارب السياسية في القرن العشرين، بقدر ما كان لها خصوصية نادرة، فالملكية جاءت بعد حكم ديكتاتوري مارسه الجنرال فرانكو لزمن طويل، وبعد حرب أهلية أفقدت البلاد أعدادًا غفيرة من الناس، بينهم نخبة من شعراء وفنانين، وحين أعيدت اللوحة الشهيرة لبيكاسو عن الحرب الأهلية والتي حملت اسم بلدة "غورنيكا"، أصر الإسبانيون على تغيير اسم الشارع من شارع الجنرال فرانكو إلى شارع بابلو بيكاسو، وكانت تلك اللحظات بمثابة تلخيص رمزي لصراع أبدي في التاريخ.
ملك إسبانيا خوان كارلوس، قدّم اعتذارًا لشعبه بسبب ما يعانيه هذا الشعب من أزمات اقتصادية، خصوصًا أنه كان في ذروة الأزمة يغيب عن المشهد ويمارس هوايته في صيد الفيلة، وليس مهمًا الآن ترجمة هذا الاعتذار الملكي إلى وصفات لحل الأزمة، فالموقف أخلاقي أولاً وأخيراً. والشعوب لا تعيش بالخبز وحده، لأن لها تكوينًا آدميًا تقع الكرامة في الصميم منه.
وبالطبع سيجد الاعتذار الملكي من الإسبان من يقول إنه لا يسمن أو يغني من جوع، وهذا بحد ذاته منطقي، إذا اقتصر الأمر على البعد الواقعي للحياة اليومية للناس.
ومن الناحية التاريخية قد لا يكون هذا الاعتذار الملكي هو الأول، فثمة زعماء اعتذروا لشعوبهم سواء في اللحظة المناسبة أو بعد الأوان، وهناك ملوك تخلوا عن العرش لأسباب عاطفية كما حدث في بريطانيا حيث بيع قبل أعوام القلم الذي مهّر به الملك تخليه عن العرش من أجل الحب بمبلغ كبير في مزاد علني.
وهناك من يرون في خطاب التنحي للراحل عبدالناصر بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967 اعتذاراً إلى الشعب، وما حدث بالفعل هو أن الشعب المصري في تلك الأيام العصيبة ورغم مرارة الهزيمة رد على الاعتذار والتنحي بمطالبة الرئيس بالعودة عن قراره.
لكن هل يكفي اعتذار ملك أو زعيم في الحالات التي تصل الأزمات فيها إلى الذروة بحيث تكون البطالة وتدني الأجور من إفرازات هذه الأزمات؟
إن التاريخ أيضاً يتولى الإجابة عن أسئلة من هذا الطراز، ففي الحكاية العربية المعروفة باسم"مأمورية الزير"، يكتشف الحاكم بأن حاشيته خيبت آماله، وأن الزير الذي أمر ببنائه كي يطفئ ظمأ الناس تحول إلى لجان فرّخت لجاناً وانتهى الأمر إلى بيروقراطية عقيمة وزير خالٍ من الماء.
فهل المطلوب في حالات كهذه أن يكون الاعتذار من نظام برمته وليس من أحد رموزه حتى لو كان أبرزهم وأعلاهم شأنًا؟
بالطبع الإسبانيون أدرى بشعاب بلادهم وأزماتهم واعتذار ملكهم من الآخرين، وهم الذين يقررون قبول الاعتذار أو أي موقف آخر، لكن الاعتذار الملكي بحد ذاته موقف لا يخلو من دراماتيكية، فالملك خوان بلغ الخامسة والسبعين واحتجب أكثر من عشرة أعوام عن الشاشة ووسائل الإعلام، والاعتذارات عندما تصدر عن قادة وزعماء لا تقلل من شأنهم فهي تعبير عن نقد ذاتي وتحرر من وهم المعصومية، فالخطأ الذي لا نتراجع عنه كبشر يتحول إلى خطيئة إذا أخذتنا العزة بالإثم.
نقلاً عن الخليج الإماراتية