رئيس التحرير
عصام كامل

تونس بين الإفلاس والتشدد الدينى.. إغلاق مئات المصانع.. توقف الإنتاج.. ارتفاع معدلات الفقر.. إرهاب إعلامى.. تصاعد العنف.. و"الحركات الجهادية تهدد ثورة الياسمين

تونس بين الإفلاس
تونس بين الإفلاس والتشدد الدينى

لم يدر بخلد صناع " ثورة الياسمين"، التى افتتحت موسم الثورات فيما عرف بـ"الربيع العربى"، أن تواجه تونس الجديدة كل تلك التحديات التى رسمت سيناريوهات قاتمة لوضع شديد الارتباك، ينذر إذا استمرت تداعياته بإجهاض كل الأحلام التى واكبت بزوغ الربيع التونسى.


ويدرك المراقب لمجريات الأحداث فى تونس فى أعقاب "ثورة الياسمين"، التى أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن على، اشتداد الصراع على السلطة بين النخب السياسية، ما أدى إلى شعور التونسيين بالخوف من المستقبل الذى يبدو مجهولا، فيما أضافت أنباء الانهيار الإقتصادى مزيدا من الضبابية على المشهد.

وأنتجت المرحلة الانتقالية فى تونس بعد ثورة 14 يناير 2011 حالة حراك حزبى كبير، حيث قامت العديد من القوى السياسية بتأسيس أحزاب جديدة مستفيدة ولأول مرة من حالة الانفتاح على العمل السياسى، حيث بلغ عدد الأحزاب السياسية عند بدء انتخابات المجلس التأسيسى فى 23 أكتوبر حوالى 100 حزب وحركة.

وعلى الرغم من عدم انفراد "حركة النهضة"، ذات التوجه الإسلامى بالسلطة وتشكيل "ترويكا" سياسية تحكم تونس تضم إلى جانبها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات، إلا أن صعود الإسلاميين لسدة الحكم فى تونس أثار الكثير من القضايا الجدلية نظرا لطبيعة البلاد الفكرية والاقتصادية.

وفى الوقت الذى عاد فيه البوليس السياسى إلى مراقبة تحركات الشارع، أكد ناشطون حقوقيون عودة التنصّت على المكالمات الهاتفية، وبروز ظاهرة الميليشيات التابعة لتنظيمات إسلامية متشددة، كما شهد المجتمع إنقسامات حادة بين خائفين على مكاسب الدولة الحديثة وما حققته لأكثر من 50 عاما، وآخرين يحاولون ترسيخ نموذج مجتمعى جديد على الواقع التونسى.

وعكست تصريحات لرئيس الدولة "المنصف المرزوقى"، أجواء التوتر وعدم القناعة بما تحقق فى تونس بعد ثورة 14 يناير، خاصة تلك التى انتقد خلالها التصرفات السلبية التى تبلورت بعد رفع غطاء القمع، وذهب بعيدا إلى حد التنبؤ بفشل حتمى للثورة.

ويقول المنصف المرزوقى، إن ثورة لا تغير العقول والقلوب فى الاتجاه الأرقى ليست إلا مجرد تغييرا سطحيا ومهدد بالانتكاس، المطلوب منا ليس فقط بناء القوانين العادلة الضامنة للحريات والشفافية والمؤسسات الديمقراطية وإنما أيضا اعتماد سلوكيات تنبع من أحسن ما فى تراثنا العربى الإسلامى ومن قيم حقوق الإنسان، فيما حذر من تفجر الأوضاع إن استمر الوضع على ما هو عليه.

ولم تتوقف التوترات عند عتبة السياسة فقط، بل تجاوزتها إلى ساحة الاقتصاد، عندما عاش الشارع التونسى على وقع صراع محتدم هدد بانفجار الأوضاع بين حركة النهضة الإسلامية التى تقود الائتلاف الحاكم، وبين الاتحاد العام التونسى للشغل تلك المنظمة النقابية العريقة التى أسهمت أكثر من غيرها فى الإطاحة بنظام بن على.

وبلغ التوتر ذروته فى أحداث شهدتها منطقة سليانة بدأت فى 21 نوفمبر الماضى وامتدت على مدى أسبوع ، وانتهت بقمع احتجاجات الآلاف من المتظاهرين والمعتصمين من أجل التنمية وإقالة المحافظ، على أيدى قوات الأمن ما أدى لإصابة أكثر من 200 متظاهر.

وإذا كان المشهد التونسى يعج بالمتناقضات والتوترات السياسية، إلا أن ظهور موجة جديدة لم تشهدها البلاد من قبل وهى "الحركات الجهادية"، يمثل التحدى الأكبر الذى يهدد كيان تونس الجديدة، وينذر بانهيار صورة التسامح التى رسمتها العقود المتعاقبة بعد تحرير البلاد من الإستعمار الفرنسى.

ويبدو أن تحركات المتشددين الإسلاميين أصبحت تتصدر مشهد الرعب فى السيناريوهات المستقبلية لتونس، بل باتت أشد خطرا من صور قمع قوات الأمن للمحتجين واتساع دائرة الجريمة وتراجع مستوى الخدمات العامة وارتفاع الأسعار، إضافة إلى انتشار ظاهرة "الإرهاب الإعلامى" من خلال مؤسسات خفية تشغل مئات المتخصصين فى السب والشتيمة وانتهاك الأعراض ضد كل من يتحرك فى الشأن العام سواء كان يساريا أو يمينيا أو إسلاميا أو علمانيا.

وقد تزايدت خلال الفترة الأخيرة دعوات الجهاد وعمليات تجنيد واسعة للشباب التونسى، خصوصا أن الحكومة الحالية تسعى إلى إعادة مواطنين منها شاركوا فى حروب أفغانستان والعراق واليمن والصومال وغيرها، وكان لإطلاق سراح سلفيين تورطوا فى أعمال عنف دور كبير فى زرع بذور الخوف فى نفوس التونسيين، حيث يعتقد مراقبون وجود أياد خفية خارجية تسعى إلى توحيد أهداف الجماعات الجهادية لتحويل تونس إلى قاعدة مستقرة لها.

وتفيد تقارير صحفية واستخباراتية، بأن العديد من الجهاديين التونسيين يتوجهون إلى ليبيا لتلقى تدريبات فى معسكرات يتبع بعضها لـ "أنصار الشريعة " ولكن تحت إشراف تنظيم أنصار الشريعة الليبى الذى ينسق مع نظيره فى تونس.

وتنتشر معسكرات التدريب فى ثلاثة مراكز كبرى فى ليبيا، أهمها معسكر بمنطقة أبوسليم بالعاصمة طرابلس بإشراف قيادى سابق فى "الجماعة المقاتلة "، والثانى فى الزنتان (الجبل الغربي) بإشراف تنظيم أنصار الشريعة، والثالث فى الجبل الأخضر فى الشرق الليبى.

ويبدو أن تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى صعّد من وتيرة تحركاته مستفيدا من مساحة الحرية المتاحة فى تونس وليبيا، حتى يرفع الضغط على جبهة الجزائر ويستعد لمعركة مالى التى تسيطر على أجزاء منها جماعات إسلامية مسلحة.

وفيما يبدو الحراك السياسى والمجتمعى مقبولا فى إطار أن المرحلة تمر بها تونس حاليا هى مرحلة التحول من "تونس الثورة" إلى "تونس الدولة"، إلا أن الحالة الاقتصادية المتردية يمكنها أن تقلب الطاولة وتقف حجر عثرة أمام الإستقرار، وهو ما يدفع بالمزيد من القلق إلى واجهة المشهد التونسى.

فبعد حوالى عامين على اندلاع الثورة التونسية ضد زين العابدين بن على نتيجة لتردى الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدل البطالة، تذيع القناة الوطنية التونسية خبرا عن تخوف المواطنين من شبح "إفلاس الدولة" وعدم مقدرة الحكومة على سداد رواتب الموظفين خلال شهر يناير الجارى.

وذكرت القناة على لسان إحدى مقدمى الفقرات الإخبارية، أن برقية تم إرسالها لوكالة تونس أفريقيا تقول: "إن السيولة الموجودة فى الحساب الجارى للخزانة العامة للدولة لا تتجاوز سوى 126 مليون دينار فى حين تقدر نفقات الأجور العمومية ب 600 مليون دينار وهو ما قد يثير المخاوف، حول قدرة الدولة على صرف أجور الشهر الجارى".

ورغم محاولات كاتب الدولة للمالية( وزير المالية) سليم بسباس بث الطمأنينة لدى التونسيين، مؤكدا أن انخفاض السيولة النقدية لا يعنى أن الدولة عاجزة عن سداد الأجور، وأن الحكومة بصدد تغطية أجور العاملين وأن هناك سيولة نقدية كافية لحل هذه الوضعية، إلا أن حالة من الفزع باتت تسيطر على التونسيين، مترقبين ما هو أسوأ وهو إشهار إفلاس الدولة.

ومن خلال قراءة لتلك المؤشرات فإن تونس تواجه تحديا اقتصاديا ذى أبعاد اجتماعية شديدة الوطأة، فإذا كانت الشرارة الأولى للثورة قد انطلقت بسبب إحساس الشباب باليأس من أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية المتردية، فإن ارتفاع معدلات البطالة بصورة كبيرة بعد مرور حوالى عامين يعد من التحديات التى يجب على حكومة الجبالى مواجهتها بفعالية.

وتشير التقارير إلى أن مئات المصانع أغلقت أو توقفت عن الإنتاج، فيما شهدت تونس عودة أكثر من 600 ألف عامل من ليبيا على أثر الثورة الليبية ضد نظام القذافى، ما زاد من وطأة الأوضاع الاقتصادية، بالإضافة إلى توقف حركة السياحة التى كانت تشكل مصدرا مهما من مصادر الدخل القومى التونسى.

كما تؤكد الأرقام ارتفاع معدلات الفقر والعوز خاصة فى المناطق الريفية، رغم إعلان رئيس الحكومة حماد الجبالى إمكانية التغلب على حالة التراجع الاقتصادى عبر 16 خطوة إنمائية أقرها فى بيان حكومته أمام المجلس التأسيسى أواخر شهر ديسمبر الماضى منها إصلاح القطاع المصرفى وإتاحة المجال أمام إقامة البنوك ذات المعاملات الإسلامية، ومراجعة المنظومة الضرائبية، ودعم القطاع السياحى، وتنشيط السوق المالية، وغير ذلك من الإجراءات الاقتصادية.

وإذا كان هناك من يرى أن ثورة تونس قد نجحت فى عبور بعض اختبارات الديمقراطية، من خلال انتخاب برلمان وتشكيل حكومة شاركت فيها تيارات سياسية مختلفة لأول مرة بعد الاستقلال، إلا أن التوتر الذى يعتلى المشهد السياسى والانهيار الذى يبرز فى واجهة المشهد الاقتصادى وما يمثله ذلك من تحديات تفرضها مرحلة التحول الديمقراطى، لا يمكن أن يرسم سيناريوهات متفائلة لمستقبل "ثورة الياسمين"، كما كان منشودا.
الجريدة الرسمية