"المسعودي"..والخلاص من ظلم الوجود
وعن محور رمزية الألوان ودلالتها الفنية في أعمال الفنان المغربي الضرير إسماعيل المسعودي.. قال الناقد التشكيلي الدكتور محمد المسعودي.."إن تجربة "المسعودي" مع الريشة لها خصوصيتها، نظرا إلى حالته الصحية، هذه الحالة التي كانت حافزا بالنسبة إليه على تحدي وضعه وخوض غمار التعبير عن ذاته وعن العالم الذي حُرم من رؤيته، وإن ظل يعيش في أعماقه مخزونا في ذاكرته ووجدانه.. عن طريق اللون والشكل".
موضحا.. أن "المسعودي" جاء إلى الرسم وهو يختزن مشاهد مختلفة من لحظات طفولته التي كان يبصر خلالها، لقد فقد بصره بالتدريج، وغاب النور عن مقلتيه وهو ابن «10» أعوام، وقبلها كان دقيق الملاحظة، كثير الحركة، شغوفا بفك الأجهزة الكهربائية والإلكترونية وتركيبها، كما كان شغوفا بالبحر وأزقة القصبة وباب البحر، وتأمل كل ما حوله، ولعل هذه الخبرات الطفولية حينما تمرست بالمعرفة والتدريب.. استطاعت أن تنتج هذه اللوحات الفنية الدالة.
وأضاف: "أول لوحة أقف عندها.. لوحة تجسد تجربته مع الريشة والقيمة التي تمثلها في حياته، إن هذه اللوحة التي تقوم على أساس تشخيصي.. تتخذ من رمزية الألوان منطلقا للكشف عن دلالات ترتبط برؤيته للفن ووظيفته بالنسبة إليه وإلى المتلقي.. إن اللون الأسود يعم اللوحة مشكلا أرضيتها وجانبها اليساري، إشارة إلى معاناة المبدع مع ظلام العالم، ولا نقول: ظلمته وسواده.. أما اللون الأزرق الغامق.. فيرتبط بنفس الدلالة، ولكنه يشير إلى السماء.. ووسط ظلمة الأرض والسماء.. يمضي شخص أعمى حاملا ريشة على شكل عصا، يرتكز عليها في مشيه، وتضيء له الطريق نحو قمة جبل.. حيث تبدو في أعلاه نجمة لامعة.. إن هذا اللون الأبيض القليل، الذي يخترق الظلام الكثيف.. يحمل معنى الأمل، ويجسد الإصرار على السير في طريق الإبداع، باعتباره بابا للخلاص من ظلم الوجود، كما يقول الشاعر بدر شاكر السباب".
واستطرد:" امتزاج «4» ألوان فقط.. أنتجت دلالات رمزية عدة في هذه اللوحة الرمزية التشخيصية، ساعدتها أشكال أخرى بسيطة.. الشخص، الريشة، الهلال، النجمة اللامعة.
منوها.. إلى أنه إذا كانت هذه اللوحة.. عبرت عن رؤية الفنان إلى ذاته، وإلى دور الفن في حياة الإنسان، إذ إنه ينيرها ويجعل لها معنى عبر أشكال قليلة وألوان محدودة.. فإن لوحة أخرى غاصت في الفكر، وجسدت التجربة في طريق استثمار ألوان مكثفة عدة، كما استندت إلى بلاغة الخط والشعر.. إنها لوحة انطلقت من بيت لأبي العلاء المعري، يعبر فيه عن تحديه للشعراء، وعزيمته على الإتيان، بما يدهش ويبهر.
وإلى نفس الدلالة يرى "إسماعيل"، وهو يكشف الألوان في هذه اللوحة، ويمزجها مزجا كبيرا، طغت على هذه اللوحة الألوان الدافئة، الأحمر وما يقاربه والأصفر وما يجاوره.. إلى جانب الأزرق والأخضر، إن ألوان الطبيعة والحياة كلها.. تجتمع في هذه اللوحة، إلى جانب اللون الأبيض الذي يتمركز في قلبها، وهو بذلك يرمز إلى الأمل، الذي ينبغي أن يكون لُب الحياة وواسطة عقدها، وهذه هي الدلالة الرمزية الإنسانية التي تسعى هذه اللوحة إلى إيصالها، عبر عناصرها المختلفة.
وفي لوحة تجريدية رمزية أخرى.. يوظف "المسعودي" الألوان بكثافة أكبر، فيستثمر طاقة الألوان الدافئة دائما، وخاصة الأحمر والبرتقالي والقرمزي إلى جانب اللونين الأسود والأخضر، رامزا إلى "رقصة كنارية خاشعة"، يؤديها شخص، لا تبدو من ملامحه المجردة سوى هيئة لباسه الكناري الأخضر، فهذه اللوحة تخلصت من الرمزية الذاتية لتعانق تجربة إنسانية أوسع، تجربة هذا الفنان الكناري وهو يعانق ألوان الوجود الكثيفة، مصرا على توقيع حضوره كفنان موسيقي يشع الدفء في الحياة تماما، كما يصر "المسعودي"، بالرغم من إعاقته، على إشاعة معنى أهمية الفن والإبداع في حياته وحياة الناس من حوله، مهما كانت العوائق، ومهما كان من تجاهل ذوي القربى.
وهكذا فإن تجربة "المسعودي" مع الألوان تجربة منفتحة على مغامرة الترميز بكثافة، واللون في الفن التشكيلي قبل أن يكون لونا طبيعيا، فهي رمز في ذاته، وهذه البنية التي تشكل اللون في ذاته.. حين ترتبط بالفكرة وبالقدرة على تشخيصها أو تمثيلها تجريديا.. تتيح للفنان الحقيقي إمكانية التعبير عن رؤيته لذاته ومن حوله.