كواليس لعبة "المخابرات الدولية" في لبنان.. موسكو وواشنطن وطهران ورابعهما تل أبيب.. روسيا تدافع عن مكاسب بيع السلاح والغاز
تزامنًا مع اشتعال موجة الاحتجاجات التي ضربت لبنان في أكتوبر الماضي، تصاعدت حدة المخاوف من زيادة نشاط عمل مخابرات الدول الكبرى مثل أمريكا وروسيا، التي عملت لسنوات من أجل تعزيز مصالحها على الأراضي اللبنانية ودعم حلفائها على جميع الأصعدة، بما يجعل حالة التخبط التي تعيشها بلاد الأرز وعدم القدرة على التوافق على إعادة ترتيب بناء البيت اللبناني من الداخل، فرصة هائلة لكل من موسكو وواشنطن لبسط نفوذهما وتوجيه الدفة لما يحقق مصالح كل منهما، دون النظر للأزمات الاقتصادية التي تعصف ببيروت يومًا بعد يوم.
وانشغل الأمريكيون لسنوات بدراسة محاولة روسيا إدخال لبنان إلى دائرة نفوذها، ووضع بيروت تحت مظلة موسكو للدفاع الجوي، وبيع الأسلحة إليها، في ظل جدال بين بعض المحللين حول ما إذا كان ينبغي على واشنطن ألا تتنافس مع موسكو هناك، وآراء أخرى ترى أن أي تنازل لن يعتبر مقبولا، رغم أنه من المحتمل ألا تؤثر مبيعات الأسلحة الروسية إلى لبنان على ميزان القوى في المنطقة، غير أن توسيع مظلة الدفاع الجوي الروسية بسوريا ولبنان، سيؤثر بطبيعة الحال على ميزان القوى خاصة في الصراع (العربي - الإسرائيلي) و(الإيراني – الإسرائيلي)، ويخلق في نفس الوقت تحديًا خطيرًا للولايات المتحدة على صعيد المستقبل القريب.
يذكر هنا أنه خلال النصف الأول من عام 2018، أعربت روسيا بشكل متزايد عن استيائها من الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف إيران وحزب الله في سوريا، وفي 17 سبتمبر 2018، أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة حربية روسية من طراز إليوشن IL-20، عن طريق الخطأ، أثناء عملية جوية إسرائيلية، وألقت موسكو باللوم على تل أبيب في الحادث، ونشرت على الفور أنظمة الدفاع الجوي S-300 في سوريا، مما حد بشكل كبير من حرية حركة سلاح الجو الإسرائيلي، وأصر الخبراء العسكريون والمدنيون الروس علانية على أن الوقت حان لاعتراف إسرائيل بأن روسيا هي التي تفرض القواعد هناك، وقال فيودور لوكيانوف، رئيس هيئة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسية: «إذا كانت إسرائيل تتحدى الدور المهيمن لروسيا، فإن روسيا سترد وتتخذ موقفا».
وكان الهدف الإسرائيلي الرئيسي في سوريا منع عمليات نقل الأسلحة من إيران إلى حزب الله في لبنان، واستخدمت إسرائيل المجال الجوي اللبناني لإحباط عملية النقل تلك، وفي نوفمبر 2018، طلب الرئيس اللبناني ميشيل عون، من موسكو حماية المجال الجوي اللبناني، وذكرت وسائل الإعلام الروسية أن وزارة الدفاع كانت تفكر بشكل جدي في تنفيذ مطلبه رغم أن الفكرة أزعجت الإسرائيليين للغاية، وحصلت شركة «Novatek» الروسية للغاز الطبيعي في فبراير 2018، على إذن من الحكومة اللبنانية لتطوير حقول الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية للبحر الأبيض المتوسط المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، في إجراء يشير إلى أن موسكو انحازت بشكل كبير إلى لبنان.
وطالبت بالحق في حماية استثماراتها في الغاز الطبيعي، إلا أن روسيا ظلت محايدة خلال عملية الدرع الشمالي في «ديسمبر 2018- يناير 2019»، عندما دمر جيش الدفاع الإسرائيلي أنفاق حزب الله التي تعبر من الحدود اللبنانية الإسرائيلية إلى شمال إسرائيل، ومع ذلك، فإن طموح موسكو لإدخال لبنان إلى دائرة نفوذها يسبق تدخلها في سوريا ويستمر حتى يومنا هذا، وبحسب تقرير لمعهد «ميدل إيست فورم»، فإن «لبنان يعد الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي يمكن لموسكو الاعتماد عليها كمجتمع مسيحي، وحليفها الطبيعي هو الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لبطريركية أنطاكية، وتضم الطائفة الأرثوذكسية حاليًا نحو 8٪ من سكان لبنان، وشملت الحكومة اللبنانية السابقة التي تم تشكيلها في يناير 2019 أربعة وزراء من المجتمع الأرثوذكسي، بمن فيهم نائب رئيس الوزراء ووزير الصحة غسان حاصباني ووزير الدفاع إلياس أبو صعب، ووزير الدفاع السابق، يعقوب صراف، الذي ذكرت وسائل الإعلام الروسية أنه يفضل مبيعات الأسلحة الروسية إلى لبنان، وهو أيضًا عضو في الكنيسة الأرثوذكسية».
ومنذ عهد ستالين، تم تكليف الدبلوماسيين السوفيت في لبنان وسوريا بإبقاء بطريرك أنطاكية في دائرة نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وفي عهد بوتين، ازدادت الاتصالات مع المسيحيين الأرثوذكس بشكل كبير، وسعت موسكو أيضًا إلى التحالف مع الموارنة - أكبر طائفة مسيحية في لبنان، رغم أنه تاريخيًا، كانت فرنسا الشريك الدولي الرئيسي للموارنة، ولكن هذه العلاقة تراجعت إلى حد كبير عندما رفض بطريرك أنطاكية الماروني، بشارة بطرس الراعي، دعم "الربيع العربي" ورحب بالقوات الروسية في سوريا، لأن الراعي تابع للفاتيكان، فهو يحاول الحفاظ على التوازن بين روسيا والغرب، لكن موقفه يبدو أقرب إلى بوتين من الغرب، كما قال سابقًا في إذاعة الفاتيكان: «إذا كنت تريد الديمقراطية، فطبقها واستمع إلى ما يقوله الناس. تريد أن تعرف ما هو مصير الأسد؟ دع الشعب السوري يقرر».
وتعد جمعية العائلات الأرثوذكسية في بيروت عامل ضغط من أجل الدفع لتحقيق المصالح الروسية في لبنان وتحافظ على روابط وثيقة مع منظمات روسية، كما تعد عائلة سرسق اللبنانية واحدة من أكثر العائلات نفوذا وتتعاون مع القنصلية الروسية العامة في بيروت منذ القرن التاسع عشر، فيما يرتبط الكرملين بعلاقات قوية الرئيس اللبناني ميشال عون، وتلعب عائلات عون والحريري وجنبلاط التي لديها اتصالات قوية بالسلطات الروسية أدوارًا رئيسية في السياسة اللبنانية، ويستخدم الكرملين اتصالاته معهم من أجل مصلحته.
ويعتبر لبنان البلد العربي الوحيد، بجانب سوريا، الذي حافظ رجال السياسة المؤيدون للاتحاد السوفيتي على السلطة منذ سبعينيات القرن الماضي، وبقيت تلك النخب قوية في لبنان، ومن أبرز تلك الشخصيات التي واصلت علاقات الشراكة مع روسيا، جورج شعبان، الذي مثل أعمال عائلة الحريري في شركة «سعود أو جيه» والتي تعمل مع روسيا في مجال النفط، وكذلك أمل أبو زيد، ممثلة الرئيس عون في ملف العلاقات الروسية اللبنانية، وصاحبة شركة "أديكو" للاستثمار، والتي تعمل في السوق الروسية منذ عام 2000، بالإضافة إلى أن روسيا تستخدم مجموعات مرتبطة بأحزاب اليمين الأوروبي في الضغط على المسيحيين اللبنانيين.
ووفقًا لألكسندر شوميلين، مدير مركز تحليل النزاعات في الشرق الأوسط بمعهد الدراسات الأمريكية والكندية التابع للأكاديمية الروسية، فإن «بوتين يسير على خطى الكرملين خلال الحقبة السوفيتية، ويسعى إلى ربط الدول الإستراتيجية بموسكو من خلال تقديم المساعدة العسكرية والدعم الاقتصادي، كما يسعى أيضًا إلى تعزيز مصالح الشركات الروسية الكبرى وزيادة أرباحها عبر حلفاء الكرملين الأجانب».
وأوضح أن «الدور الروسي بدأ يتصاعد بعدما تمت إعادة هيكلة القوات المسلحة اللبنانية بين 2005 و2006 بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وجاءت معظم الأسلحة من أمريكا، وبعض المساعدات البسيطة من جانب فرنسا وألمانيا، ولكن لبنان وجدت مشكلة في المساعدات الأمريكية والتي أحجمت عن تزويدها بالأسلحة الثقيلة، وتوجيه استخدامات لبنان للسلاح في مواجهة حزب الله وموازنة القوى في لبنان، ما دعا روسيا إلى استغلال حالة الاستياء اللبناني من القيود الأمريكية، بعد 2008، وبالفعل حاولت إبرام صفقات بيع دبابات ومقاتلات لإمداد الجيش اللبناني بها».
على الجانب الآخر فإن الدور الذي تلعبه أمريكا بأجهزة مخابراتها في لبنان، يتضح من خلال ملاحقاتها لحزب الله، ولعل أبرز الملامح التي تجلى فيها الدور المخابراتي الأمريكي في لبنان أثناء حرب لبنان في 2006، عندما أمدت المخابرات الأمريكية نظيرتها الإسرائيلية، بمواقع نشطاء حزب الله من أجل استهدافهم في عمليات اغتيال، وكشفت وثائق مسربة أنه رغم أن القانون الأمريكي يحظر على وكالة الأمن القومي الأمريكية تبادل معطيات مراقبة قد تستخدم لعمليات اغتيال مستهدف، إلا أن الضغط الإسرائيلي أدى إلى إنشاء إطار جديد لتسهيل مشاركة المعلومات الاستخباراتية بين البلدين، وفي تقرير مفصل كشف حزب الله، عن أنشطة جهاز المخابرات الأمريكية في لبنان، عن طريق هيكل تنظيمي يدار من خلال أحد المباني التابعة للسفارة الأمريكية بمدينة عوكر، حيث يتم إدارة وتشغيل عدد من الأشخاص التابعين لها في قطاعات سياسية واجتماعية وإعلامية وعسكرية.
نقلا عن العدد الورقي..