23 سنة في "ثلاجة البرلمان"
لم تتردد الدولة في إصدار قانون مثلما ترددت في قانون العلاقة بين المالك والمستأجر، حتى إنه يعد مشروع القانون الأطول عمرًا في تاريخ المناقشات البرلمانية " 23 عاما"، ربما لأن في إقراره ذبحا لملايين المستأجرين وفى تجميده إطالة لأمد ظلم آلاف الملاك، وفى الحالتين هناك طرف ذبيح أو مظلوم سواء في حالة الإقرار أو التجميد، حتى إن برلمان نظام مبارك طرحه للتداول والنقاش منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى دون أن يتم إقراره حتى اليوم.
مشروع القانون -الذي طالت مدة تجميده لنحو ربع قرن- تنطلق من فرضية أو حقيقة تعرض الملاك لظلم كبير، وبالتالى ترتكز أغلبية مواده على قاعدتين ثابتتين وهما مضاعفة القيمة الإيجارية الهزيلة جدا، وإخراج المؤجر من الشقة بعد منحه مهلة لعدد من السنوات وإعادتها لمالكها الأصلى، هو بالتأكيد يصحح وضعا خاطئا استمر عشرات السنين، لكنه في نفس الوقت يمثل مجزرة لكثير من المستأجرين الغلابة، فلا معهم ما يدفعونه للزيادة المنتظرة، ولا لهم مأوى بعد الطرد.
عندما يتعلق الأمر بهذا القانون الشائك، فإن الحقيقة تصبح ذات وجهين لا وجه واحد، المستأجرون يطوعونها وفق مصالحهم وهو الضرر الذي سيلحق بهم من جراء تداعياته الخطيرة، والملاك كذلك وهو الضرر الواقع عليهم منذ أمد بعيد، بعبارة أخرى الكل يدافع عن مصالحه ويحارب من أجل إلغاء أو إقرار القانون الذي طال الحديث عنه ويتم إخراجه من الثلاجة حينا، ثم إدخاله إلى الثلاجة حينا آخر.
ورغم انحياز كل مالك أو مستأجر لمصالحه، إلا أننى أعرف مستأجرين "أصحاب ضمير" تنازلوا عن شققهم المؤجرة "طواعية" وبدون طلب "خلو رجل" من الملاك "الغلابة" الذين ضاق بهم الرزق ويعجزون عن تدبير مقدم شقة في أفقر أحياء مصر ليمكنوهم من تزويج أبنائهم الذين بلغوا الأربعين دون أن يكملوا نصف دينهم، وأعرف مستأجرين آخرين رفعوا القيمة الإيجارية لشققهم طواعية أيضا و"بدون قانون ولا يحزنون" من 10 جنيهات إلى مائة ومن 20 جنيها إلى مائتين ومن 30 إلى 300 جنيه، إدراكا وتقديرا منهم لحجم الظلم وغياب العدل، وهذه حالات فردية بالطبع وليست ظاهرة عامة.
لست مستأجرا ولا مؤجرا حتى يضعنى البعض في خانة صاحب مصلحة، أو في خندق رفض أو تأييد القانون، بل أكتب بنفس مداد أولئك المستأجرين أصحاب الضمير الذين تطوعوا بالتخلى عن شققهم وبزيادة القيمة الإيجارية لعلمهم أنهم يقيمون في شقة بملاليم بينما قيمتها ملايين، لكننى أعرف أصدقاء ملاك لعمارات ومحال قديمة بلغ بهم الغضب والحنق والسخط مداه على أشياء كثيرة بسبب قسوة شعورهم بالظلم، ورؤيتهم لمستأجرى شققهم مقابل بضعة جنيهات يشترون الشقق والسيارات الفارهة ويبخلون ببضعة جنيهات لصيانة عمارتهم المتهالكة بل ويطلبون من المالك دفعها.
أعلم حجة غالبية المستأجرين في رفض القانون والتي تستند إلى أنهم سددوا للمالك عبر القيمة الإيجارية الممتدة لسنوات ما يعادل ثمن الشقة بالتقسيط على 20 أو 30 أو 40 سنة حسب السنين التي أمضوها كمستأجرين، وهو أقرب لما يسمونه الآن نظام "التأجير التمويلى" الذي تطبقه وزارة الإسكان بالمدن الجديدة، بحيث يسدد المواطن ثمن الشقة عن طريق إيجار شهري على عدة سنوات وبمقدم بسيط.
أتفهم مخاوف وفزع أغلب المستأجرين من مصير الطرد في الشارع بسبب القانون دون أن يكون لديهم القدرة المالية على إيجاد سكن بديل، وهذه فرضية لهم كل الحق فيها، وأستوعب أيضا تردد وتريث وتباطؤ الدولة في إصداره، خصوصا أن المستأجرين هم الأغلبية وليس الملاك وبالتالى حجم الضرر من جراء القانون المنتظر سيكون أكبر.
لكن الوجه الآخر للحقيقة في ملف هذا القانون الشائك أن هناك مؤجرين لشقق قديمة من الأثرياء الذين يتملكون عشرات الشقق والشاليهات ويركبون سيارات فارهة، بل يؤجر بعضهم محال بإيجار قديم في شوارع رئيسية بعشرات الجنيهات وهى تدر لهم مئات الآلاف من الجنيهات شهريا، بينما هناك ملاك لعمارات قديمة لا تدر لهم شهريا أكثر من مائة جنيه وهم بالفعل فقراء لايجدون قوت يومهم ولا مصاريف تعليم أولادهم بالمدارس أو العلاج من أمراض تفتك بهم.
وللحديث بقية..