الرصاصة
قد لا نعلم عن ظروف الآخرين سوى قشور بسيطة على سطح حياتهم، تفتح المجال الواسع لمن لا يُعمل عقله بأن يضعهم في مرمى التهكم والسخرية، بينما واقع حالهم يدعو للتعاطف والرفق بهم، بل والدعاء لهم بأمنيات الخير.
صديق دائم المزاح مع أحد الطيبين، خاطبه ذات مرة بنبرة ساخرة، مخبرًا إياه أنه لن يري رائحة الزواج طوال عمره، وسيموت فردا بلا ذرية، إذ وصل سنه إلى الخامسة والثلاثين، وهو ما دعاه لإطلاق هذه المزحة عليه ظنًا منه أنها مثيرة لضحكات الآخرين.
كنت أعلم مسبقا ظروف الشاب الثلاثينى التي تحول بينه وبين الزواج، بل وربما فقدانه الأمل فيه، إذ يعول أسرته كاملة، فضلاُ عن ضيق ذات اليد التي تجعله ينفق كل دخله المحدود للغاية على مصروفات دواء والدته، رغم محاولاته الحثيثة للتكسب من أكثر من عمل على مدار يومه.
وحينما علم الصديق الساخر بهذا ندم على ما قال، وأدرك أنه تسبب في أذى نفسي، لشخص ليس له من أمر ظروفه شيئا، إلا التوكل والسعى والاجتهاد لتحسينها، ولكنها إرادة الله.
ربما أشعلت كلمة عابرة، نارًا في النفس، وحسرة على العمر، وسقوطا في غياهب اليأس، وقد تدفع للتخلص من الحياة برمتها. لنتخير الكلمات قبل نطقها، لنتخيل وقعها على أنفسنا أولًا قبل إطلاق رصاصتها القاتلة على الآخرين، الذين لاذنب لهم في ظروفهم، وقد كان من الوارد أن تضعنا الأقدار في موضعهم.
لنحمى الآخرين من فلتات ألسنتنا الموجعة، نفكر في وقع الكلمة قبل إطلاق زناد القسوة، نتعقل أن نضرب نفسا تحيا على الأمل، فنصيبها في مقتل، أن ننضم إلى مصاف من يتقيهم الناس لفحش ألسنتهم، فيتبسمون لنا جهرا، ويلعنونا سرا.
بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) صدق الله العظيم.. سورة الحجرات الآية رقم 11