مضادات أخرى للتهويد
جُربت حتى الآن المضادات الكلامية لتهويد القدس وأسرلتها، وبإفراط أفقد الكلام دلالاته وأفرغه من المضمون، ويبدو أن الجنرال والحاخام معاً أدركا عدم جدوى وفاعلية هذه المضادات، لهذا لم يتوقفا لحظة واحدة عن مواصلة التهويد، إضافة إلى العبرنة التي تترجم أسماء أماكن وآثار إلى العبرية وتصبح هذه الأسماء المترجمة هي دليل السائح القادم إلى فلسطين من مختلف أرجاء العالم.
إن أبسط بديهيات المنطق، هو أن التعريب والأسلمة للقدس هما المضادان الحقيقيان لتهويدها، ومحو ملامحها العربية الإسلامية، وليس معنى ذلك أن القدس بلا ذاكرة أو هوية بحيث يشرع العرب في هذه المهمة المزدوجة، إنها عربية بامتياز تاريخي، وكل حجر في سورها ممهور بهذا التاريخ ويحمل بصمات من افتدوا المدينة بدمائهم عبر العصور، والمقصود بالتعريب والأسلمة هو إعادة الاعتبار المسلوب إلى القدس، وترسيخ عروبتها وإسلاميتها ومسيحيتها أيضاً، لأن استراتيجية تهويدها لا تتوقف عند السطو المسلح على تاريخها، بل تتخطى ذلك إلى حذف الأبجدية من أسماء الأماكن والآثار.
أما كيف يمكن لهذه المضادات الثقافية والقومية أن تقدم للقدس فتلك مسألة أكثر تعقيداً من وصفة سريعة، فالطريق إلى سُرّة الكون وعاصمة التاريخ ليس مُعبَّداً، بل هناك أسوار فولاذية وعنصرية عازلة، وحواجز قد يسأل من يقيمونها نسمة الهواء عن زفير عربي مهرب فيها والشجرة الخالدة عن حفيفها، لكن ليس معنى ذلك أن القدس أصبحت في كوكب آخر ومجرة يتعذر الوصول إليها، إنها لاتزال في هذا العالم وعلى هذه الأرض وثمة أساليب عديدة لتلبية ما يصل من استغاثاتها وهي قاب مستوطنتين أو أدنى من التهويد الكامل.
إن تجربة المضادات اللفظية قد برهنت بالتكرار على إخفاقها، وربما كان لها أضرار غير منظورة، لأنها أحياناً تنوب عن الفعل، وتقدم إشباعاً كاذباً أو حالة من الحمل الكاذب الذي لا ينتهي إلى مخاض وولادة.
لكل دقيقة الآن ثمن مضاعف، فمتوالية الحذف والتزوير تسير بتسارع ينذر بكارثة، والنكبة الحقيقية رغم أنها مصطلح مستعار من الطبيعة لا من التاريخ ليست ما حدث عام 1948، بل ما ترتب على ذلك الحدث بعد ستة عقود، فالجنرالات في تل أبيب يقولون إنهم يخوضون اليوم الجزء الثاني من حرب الاستقلال، وما يسعون إليه هو استثمار انتصارين فصل بينهما عقدان بين عام 1948 وعام 1967، وكأن بعض الحروب تظفر بالغنائم بعد أن يتأقلم المهزوم مع هزيمته ويرى بها أمراً واقعاً أو قضاء وقدراً لا فكاك منهما.
ما يجري في القدس ليس حذفاً وتدميراً فقط، فهذا هو الوجه المشهود من عملية اجتياحها تاريخياً كاستكمال لاجتياحها جغرافياً، أما الوجه الآخر فهو بناء على الأطلال، وحين يكتب على مدخل أحد شوارع القدس: الصمت رجاءً ويمنع استخدام آلة التنبيه للسيارات لأن الكاتب يوسف عجنون الفائز بنوبل للآداب يقطن في نهاية الشارع، فمعنى ذلك أن السطو تجاوز التاريخ والجغرافيا إلى الترميز.
المضادات الكلامية أدمنها من تعاطاها لستة عقود، لهذا لا يقيم وزناً لأطنان منها.
نقلاً عن الخليج الإماراتية.