رئيس التحرير
عصام كامل

"الطريق إلى العقاد".. بقلم أنيس منصور

الكاتب أنيس منصور
الكاتب أنيس منصور

عندما كنت في فرنسا قالوا لنا: في هذا الطريق كان يمشي نابليون، وننظر إلى الطريق فلا نعرف ما هي العلاقة بين عبقرية نابليون العسكرية والسياسية والإدارية وبين هذه الأشجار وهذه الأعشاب.. وأشعة الشمس تجيء من وراء السحب تضيء جانبًا من كل شيء! لا علاقة ولكنه تاريخ نابليون قد جعل لكل حجرة وكل شجرة معنى، كأنها شاركت في قراراته التاريخية لعبور الألب وإحراق موسكو واحتراق الأسطول الفرنسي في الإسكندرية.


وعندما كنت في مدينة أنسبروك بالنمسا كان يقال لنا: وهذا هو الطريق الذي يمشي فيه الشاعر العظيم جيته، وكان يرافقه أحيانًا الموسيقار العظيم بيتهوفن وفى هذا الطريق استوقفهما أحد الناس الطيبين ورفع القبعة لهما وسألهما: إن كان أحدهما العمدة!
وفي مدينة تيبنجن بألمانيا قالوا لي: وفي هذا الطريق كان فيلسوف الوجودية مارتن هيدجر يمشي.. ويتوكأ على عصاه لا عن ضعف في صحته ولكن عن وجهة نظر وهي: أنه ليس صحيحًا أن الإنسان استطاع أن يعتمد على عينيه فقط، أو أذنيه فقط أو ساقيه فقط.. وإنما الإنسان محتاج إلى أطراف كثيرة تضاف إلى أطرافه وإحساساته الخمس لكي يرى أبعد، ولكي يجعل غيره يرى أبعد وأوسع وأعمق وأصدق.. فليست هذا العصا في يده إلا رمزا لضرورة أن تتوكأ العين على التلسكوب، والأذن على الرادار. والساق على الصواريخ، والعقل الإنساني على عشرات العقول الأخرى وعلى الله.

ولا علاقة هناك بين هدوء هذا الفيلسوف وصوت العصافير حولي، ولا نعومة المنحنيات واتساعها واستقامتها. ولا أعرف لماذا اختار هذا الطريق.. كأنما الرجل قد جاء إلى هذا الطريق ليعرض نفسه على الأشجار وعلى السحب وعلى الضياء الكسيرة، ويمشي مشغولًا بالذي في رأسه.. لكنه سار من هنا، ولذلك فالطريق له معنى تاريخي، بالإضافة إلى معناه الجغرافي ـ هكذا قيل لي وهكذا تصورت!.

ولكن لم أر طريقا أروع ولا أمتع من الطريق بين القاهرة ومصر الجديدة. شيء عجيب كان يحدث كل يوم جمعة فالشمس تشرق مبكرة جدًا. وبسرعة. ولكن هذه الشمس تظل بطيئة جدًا بين الخامسة حتى التاسعة والنصف من صباح هذا اليوم.. فلابد أن نضيع هذا الوقت بأي شكل قبل أن يحين الموعد المحدد لزيارة الأستاذ العقاد في بيته بمصر الجديدة. ولكن هذا الطريق ليس له معالم في عيني.. إنه صغير ضيق. والأشجار قريبة من النوافذ.. والبيوت تكاد تلتصق بالمترو، بل أكاد أسمع أحاديث الناس.

وأجدها فرصة لكي أضحك من هؤلاء الذين يتحدثون كلامًا سخيفًا.. ولا يتركون طعامهم وشرابهم وأولادهم ويقفزون معنا في الطريق إلى العقاد. فكل الطريق هو العقاد نفسه.

مستقيم مثل منطق العقاد.. والعمارات طبقات بعضها فوق بعض مثل المقدمات والنتائج في مقالات العقاد. والشمس لم تدع شجرة ولا حجرة إلا أبرزتها، تمامًا كالوضوح الذي يشرق في كتب العقاد. وهذه الأعلام المرفوعة على المصالح الحكومية، ليس سببها أن الناس في أجازة. وإنها احترام لكل من يستريح من عمله.. أو معناها إذا غاب الموظفون، فالدولة باقية.. ولكن معناها، وكان ذلك إحساسي، أنها مرفوعة تحية لكل من يذهب إلى بيت العقاد.
الجريدة الرسمية