قلب لبنان يحترق.. لا خبز ولا دولار
تكالبت الأزمات على لبنان في الأيام الأخيرة، بين سياسية واقتصادية واجتماعية، فاحترق معها قلب الشعب مثلما احترقت بعض المناطق بفعل حرارة الطقس، وفشلت الدولة في إخمادها، واستغاثت ببعض الدول منها قبرص والأردن لإرسال مروحيات إطفاء الحرائق، لإنقاذ الشعب ولبنان الأخضر..
وكانت الاستجابة الفورية من الأردن بإرسال طائرتين للمساهمة في إخماد أكثر من 100 حريق هائل في مناطق جبلية، امتد إلى مناطق كثيرة أخرى، اضطرت معها الدولة إلى إخلاء ساكنيها حرصا عليهم، وعند منتصف النهار جاء لطف السماء بسقوط الأمطار، التي ساهمت في تخفيف حدة النيران، بعد أن التهمت مساحات واسعة من أشجار الزيتون والأعشاب اليابسة واقتربت من المناطق السكنية، ما سبب الذعر والهلع بين المواطنين، خصوصا أن الرياح الشديدة ساهمت في امتداد النيران وفقدان السيطرة عليها.
حرائق الأمس أعادت فتح ملف فساد وإهمال المسؤولين، وأدلى الشعب والسياسيون كل بدلوه في الملف المتخم، وكانت الفنانة "إليسا" صاحبة الصوت العالي والصريح، إذ اتهمت صراحة "المسؤولين لأنهم لم يستعينوا بموظفين متخصصين لأسباب طائفية، وأهملوا صيانة طائرات سيكورسكي لإطفاء الحرائق الموجودة في لبنان، وتركوها معطلة بلا صيانة لعدم وجود موازنة لقطع الغيار، ثم استخدموها في رحلاتهم الخاصة، وكذلك وزراء اعتبروا ميزانيات وزاراتهم أهم من وزارة البيئة..
وتمنت "إليسا" لو يحترق النظام السياسي الطائفي كله، أفضل من احتراق قلوب الأسر التي تركت منازلها بعد الحرائق، ومن فقد رزقه، ومن نام في الشارع خشية الموت حرقًا".
شهدت لبنان قبل الحرائق إضراب المخابز والمطاحن عن العمل، ما أعاد إلى الأذهان مشهد الطوابير للحصول على الخبز خلال الحرب الأهلية. ومن لم يستطع الشراء قبل الإضراب عاش "بلا خبز" لإعلان نقابة أصحاب الأفران الإضراب الشامل حتى تعالج الدولة "أزمة الدولار".
يقول نقيب أصحاب المطاحن "كاظم إبراهيم": "لبنان أصبح بلا خبز.. هذه المرة الأولى التي أرى فيها إهمال المسؤولين وكأن شيئًا لم يكن. إنهم يبيعون الكلام.. نحن نبيع بالليرة، وإذا الليرة ليس لها قيمة وحكامنا يطلبون منا البيع بالدولار وهو غير موجود، فلتلغَ الليرة.. لماذا يضحكون على الناس؟!".
إضراب المخابز سبقه تهديد أصحاب محطات الوقود وموزّعي المحروقات بالإضراب المفتوح إن لم تتدخل الحكومة لحل أزمة الدولار، قبل أن تتراجع عن قرارها بعد تعهد الحكومة بتوفير الدولار.
من أزمة الحرائق والدولار والوقود والخبز، إلى أزمة سياسية خلفتها مطالبة وزير الخارجية "جبران باسيل" -زوج ابنة رئيس الجمهورية "ميشال عون"-، بالتطبيع مع النظام السوري، وإبداء رغبته في زيارة دمشق، بالتزامن مع ذكرى 13 أكتوبر، تاريخ دخول الجيش السوري إلى القصر الجمهوري اللبناني، وخروج العماد "ميشال عون" رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك منه مستسلمًا ولجوئه إلى فرنسا.
رغبة "باسيل" صهر رئيس الجمهورية في زيارة دمشق، قوبلت بغضب لافت من طوائف الشعب وسياسييه، فاضطر إلى القول إنه "سيزور دمشق لبحث عودة النازح السوري كما عاد الجيش السوري إلى بلده". لكن الحقيقة أن رغبة "جبران" في إعادة العلاقات مع سوريا لا تنفصل عن اجتماعه الأخير مع الأمين العام لحزب الله "حسن نصرالله" حليف سوريا وبوق إيران، الذي نصحه بالتقارب مع "الأسد"، خصوصا أن "نصرالله" أعلن صراحة أن مليشياته لن تغادر سوريا.
لم يسكت رئيس الحكومة "سعد الحريري" على ما قاله الوزير "باسيل"، فذكره بأن "دم "رفيق الحريري" واغتياله هو من أخرج الجيش السوري من لبنان، وإذا أراد "باسيل" زيارة دمشق لإعادة النازحين، فهذا شأنه، المهم النتيجة". ملمحًا إلى أن وزير الخارجية حر في رأيه ومواقفه لكنه ملزم بسياسة ومواقف الحكومة اللبنانية.
إن كان "الحريري" لجأ إلى الواقعية والدبلوماسية باعتباره رئيسًا للحكومة، فإن الرد القاسي على شطحات "باسيل"، جاءه من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي "وليد جنبلاط"، إذ غرد "تذكروا أنهم دخلوا لبنان على دم "كمال جنبلاط"، وخرجوا منه على دم "رفيق الحريري".. تزوِّرون التاريخ وتحتقرون تضحياتكم وتضحياتنا، تنهبون البلاد وتدمرون اتفاق الطائف، تريدون تطويع الأمن والجيش لمصلحة أحقادكم، وتستبيحون الإدارة على طريقة حزب البعث، لكن تذكروا أتى بكم الأجنبي وسيذهب بكم نهر الشعب".. مستعيرا عبارة قالها والده "كمال جنبلاط" قبل أن تغتاله المخابرات السورية.
تحرك الشارع ضد مواقف "باسيل" وضد استهداف الإعلام والحريات في تظاهرة وسط بيروت، وانضم إليهم بعض الوزراء وكان لافتًا رأي وزير الصناعة "وائل أبوفاعور"، الذي أوجز رغبة وزير الخارجية "جبران باسيل" في زيارة سورية بأنه يتطلع لرئاسة الجمهورية بعد والد زوجته الرئيس "ميشال عون"، وقال: "باسيل" يريد الذهاب إلى سورية ليتوسل الرئاسة، لأن هناك من قال له أن طريق رئاسة الجمهورية يمر من دمشق وآن الأوان لأن يقول لكم الشعب ارحلوا".
ستظل أزمات لبنان قائمة بين نقص الكهرباء، الماء، سوء الخدمات، شح الدولار، المبالغة في مخصصات المسؤولين ونواب البرلمان، الفساد المستشري في مفاصل الدولة، زيادة الضرائب، طالما بقى النظام قائما على المحاصصة والطائفية والارتهان للخارج.