عبدالتواب
كان جار الشاب يقوم ببعض أعمال التجديد في شقته، واستأجر ونشا لتحميل الرمل والأسمنت من الشارع إلى شقته، وبما أنه يسكن الدور قبل الأخير، فكان لابد أن يمر الونش صعودا وهبوطا، بكل أدوار العمارة حتى ينجز مهمته.
وظهر عائق لعمال الونش وهو أحبال الغسيل في البلكونات، وما لبث أن اتخذ أحدهم القرار، واستقر داخل «حلة الونش» ليسحبه الونش ويقف أمام كل بلكون، يقطع الأحبال التي تعيق العمل، نظرا لعدم وجود سكان هذه الشقق في وقتها، وبعد أن تم استئذانهم هاتفيا.
جلس "عبد التواب" القرفصاء داخل الحلة، إلى أن وصل إلى بلكونات الدورين الخامس والسادس، وتعلق بسور الأولى الحديدي، ثم الثانية، وأنا أواصل تحذيره، وتعنيف صاحب الونش، والجار المسئول عن كل ذلك، بضرورة إلغاء الموضوع بأكمله، فكان رد صاحب الونش: «خليها على الله ماتخافش "عبد التواب" متعود على كده».
مرت لحظات الترقب والقلق، و"عبد التواب" يواصل قص الأحبال في كل دور متشبثا بالحياة من خلال ذراعه المتعلق بالسور، بينما الذراع الآخر يواصل مهمته في إزالة العوائق، ثم أخبره صاحب الونش بأنه سيسحبه إلى أعلى الدور التاسع لأنه يحتاجه سريعا في إنجاز بعض المهام.
جلس "عبد التواب" واستعد للصعود وهو يتشبث بكلتا يديه بشوكة الونش المعدنى، وربما كانت بالنسبة لى أيضا مثله لحظات قاسية من الرعب، ودارت في ذهنى تلك التساؤلات: ماذا لو انقطع السلك المعدنى؟، ماذا لو خارت قواه ولم يمسك جيدا وتعثر صعود الونش، وسقط على الأرض من هذا الارتفاع؟.
وخلال أقل من دقيقة وصل "عبد التواب" بسلام الله ودعوات الستر والنجاة إلى سطح العقار، وارتمى على الأرض وهو يلتقط أنفاسه بعينين زائغتين، ينطقان بلحظات من المعاناة الحقيقية.
سألته بعد أن طلب القليل من الماء للشرب: «ليه خاطرت وكان ممكن تقع من فوق؟»، فأجاب بنبرة صارمة: «ده أكل عيشي ولو ماعملتش كده مش هانخلص شغل في يومنا ده».
وعاودت سؤاله: «أنت عندك عيال؟، ماخفتش تقع؟»، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال تحديدا لينفجر في شرح معاناته وتعبه في تحصيل الرزق، فقال: «والله يا بيه ياريت، أنا عندى 5 عيال، ومش ملاحق، والله يا بيه ولا 200 جنيه في اليوم بتكفى».
في يوليو الماضي، أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفاع عدد سكان مصر إلى 98.1 مليون نسمة في بداية عام 2019، مقابل 94.8 مليون عام 2017، وهو آخر تعداد سكاني تم إجراؤه، بزيادة قدرها 3.3 مليون نسمة.
معادلة قاتلة، إنجاب بلا حساب، معاناة وذل وشقاء في الحصول على لقمة عيش لا تكفى الأفواه، تتلقفها البطون الجائعة مهما بلغت، ثم نقمة على الحياة بكل ما فيها، ثم تمنى الموت في سبيل الخروج من مأزق الذل.
تحولت عشوائية الإنجاب إلى عوامل ضغط مضادة لاتجاه التنمية، فأصبحت الزيادة السكانية مثل الغول الذي يلتهم الموارد الطبيعية، وينسف أي معدلات للتنمية حتى لو كانت عالية، عفوا "عبد التواب"، وحدك من ظلمت نفسك وأولادك، ولا أحد غيرك.