ريجا.. متحف العمارة المدهشة
إذا كان جمال الطبيعة أصل فإن روعة وجاذبية وجمال "ريجا" عاصمة "لاتفيا" استثناء مدهش، هنا أكبر مدن البلطيق وأعمقها تاريخا، هنا سبعمائة ألف نسمة ينعمون بهدوء قلما تجده في مدينة أخرى على مستوى العالم، امتط قدميك واترك نفسك تسبح في بحر هادر من البنايات التي تتزين جدرانها بروح الفن الحديث، أكثر من ٨٠٠ بناية تنتمى إلى الفن الحديث، وضعت "ريجا" تحت حماية اليونسكو.
هي كما يلقبونها باريس الشمال الأوروبي، تتفرد وحدها دون غيرها بعناصر أمان يندر أن تجد لها مثيلا، تستطيع التجول حتى فجر اليوم التالى دون خوف أو رهبة، الناس في "ريجا" ودودون، مسالمون، تكاد تتشابه وجوههم، يحتفظون بكل ما يرسخ هويتهم الوطنية من حيث اللغة والعادات والتقاليد، ملامح الخجل التي تسكن وجوه الفتيات تتطابق مع ما تراه في عواصم الشرق في عز مجدها.
"ريجا" التي أزورها للمرة الثانية في حياتى واحدة من المدن التي تسكنك دون مغادرة، تبقى بداخلك وكأنها قصة إنسانية حبك تفاصيلها روائى من عصر تولستوى، الجدران القديمة التي كانت متهالكة عكفت عليها الدولة فأعادت لها رونقا وتاريخا تليدا، كل بناية هنا كفيلة بأن تأسر فؤادك، تنطبع فنونها داخلك دون أي شيء يمحوها، حدائقها المنتشرة تحكى فصولا إنسانية لبشر تربوا على عشق الطبيعة الخلابة.
تنساب الموسيقى من حواريها الضيقة لشباب وعجائز يغنون ليل نهار، وفرق موسيقية حولت الشوارع التاريخية إلى مسارح تنشر الخير والمحبة، وترسخ في النفوس معنى رائعا للحياة، "ريجا" عاصمة الثقافة الأوروبية لعام ٢٠١٤ تنفرد دون غيرها من عواصم أوروبا بفسيفساء معمارية نادرة، ورغم اعتبارها أكبر مدن البلطيق إلا أنها أكثر مدن العالم هدوءا وجمالا وتفاعلا بين البشر والطبيعة التي حباها الله لأهلها.
جولة داخل متحف لاتفيا المفتوح كفيلة بأن تنقلك إلى ماض سحيق، لترى تفاصيل حياة اللاتفيين، مساكنهم، تفاصيل حياتهم، شوارعهم، هنا تاريخ الناس ورواية قديمة على أوراق صفراءـ تجسد حياة شعب ظل رغم كل الحروب والاحتلال والمعاناة يحفظ بين دفتى ترابه وأنهاره وغاباته ملحمة شعب صغير استطاع الدفاع عن هويته، والاحتفاظ للأجيال الجديدة بخريطة الجينات الأخلاقية والاجتماعية بشكل منقطع النظير.
يحتل السكان نسبة ضئيلة للغاية من الأرض، بينما تسيطر الأنهار التي تقفز أعدادها بالآلاف، والأشجار التي تشكل أكبر غابات العالم، والطيور والحيوانات بقية المساحة، داخل غابات يورمالا فقدنا الطريق، وضعنا بين أشجارها المنتصبة في إباء مدهش، لأكثر من ست ساعات، ورغم الوحشة والرهبة إلا أن الاستمتاع بفقدان الطريق متعة لا يضاهيها متعة عندما يمتد بصرك فلا ترى إلا أشجارا وطيورا ومساحات لا تنتهى من الخضرة اليانعة.
في شوارع وحواري "ريجا" الضيقة، لن تجرح عينيك مشاهد شاذة، كل شيء ينطق بالجمال والمتعة، المطاعم والمقاهى تتراص حول الكنائس العتيقة، وعندما تصعد قمة كنيسة القديس بطرس سترى ما يسرك، بنايات تعانق الطبيعة، ونهر يقسم المدينة، وسحب بيضاء تتخلها سمرة الزحام السحابى الكثيف، وشمس تطل في خجل من بين تلال السحب، وجبال مترامية في سماء المدينة العتيقة.. تستطيع بعدساتك أن تلتقط مناظر فريدة هي لوحات ترتسم في المخيلة ولا تبارحها أبدا.
رغم صغر المدينة التاريخية إلا أن أسبوعا كاملا لا يكفيك للاطلاع على معالمها، بين القديم والحديث تتعدد المعالم بدءا من تمثال الحرية وانتهاء بمتحف الاحتلال الذي يروى للأجيال الجديدة قصة شعب قاوم بكل ما أوتى من قوة جحافل الاستعمار على مدار تاريخه، هنا متحف الرءوس السوداء، ينقلك إلى تاريخ قديم من فصول البطولات والأبطال الذين دافعوا عن بلادهم في وجه محتل غاشم، يلتصق به دار للسينما 5D تستطيع أن ترى ريجا بكل ما فيها، من خلال فيلم ممتع من على كرسى طائرة تجوب الشوارع وتمضى فوق الغابات، وتدخل بك إلى عالم المتاحف المثير.
"ريجا" من المدن التي تأسرك بكل تفاصيلها، رحلة واحدة لا تكفي.. إذا وطأت قدماك هذه البلاد فقد نشأت بينك وبينها قصة حب لن تنتهى!!