"الغزالى".. حضور دائم يتحدى الرحيل
لم يكنْ الشيخ "محمد الغزالى"، الذي حلَّتْ ذكرى ميلاده الثانية بعد المائة يوم الأحد الماضى، مُجرد عالمٍ أو فقيهٍ، ولكنه أوتى جوامعَ الكلم، كما أوتى الحكمة، ومَنْ يؤتَ الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا.
بعيدًا عن مواقفه الرائعة ومؤلفاته الخالدة ومبادئه الناصعة التي دافع عنها طوالَ حياته، فإنَّ "الغزالى" صاغ عباراتٍ مُختصرة، وجملًا مختزلة، تُشبهُ التغريداتِ والتدويناتِ القصيرة في زمن الفضاء الألكترونى، في عدد كلماتها، ولكنَّ كلًَّا منها ترصدُ، في بلاغةٍ لا حدودَ لها، ظاهرة وتطرحُ حلًا لها، أو تُشخِّصُ مرضًا وتكشفُ علاجه، أو ترصدُ عرَضًا وتقدمُ دواءَه.
تجلَّتْ عظمةُ " الغزالى"، الذي عاش بين عامى 1917 -1996، في أنه كان يترجمُ ويقولُ ما في عقول المسلمين وصدورِهم وقلوبهم بلا خوفٍ أو ترددٍ، لقد كان مُمثلًا أمينًا للمُستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لذا فإنَّ حضورَه، رغمَ الرحيل، لا يزالُ قويًا وطاغيًا، وهذا سَمتُ العلماءِ الحقيقيين الذين صاروا في زمننا الغادر عُملة نادرة الوجود.
كان "الغزالى" لا يخشى في اللهِ لومة لائم، ولا يلجأ إلى المناوراتِ، ولا يستصيغُ المواءماتِ، لذا.. كان موقفُه من المعسكر الكاره للإسلام واضحًا وجليًا، ومن أقواله في ذلك: "إنَّ حضارة الغرب تكرهُ اللهَ، وتنفرُ من الحديث عنه وعن لقائه يومَ الجزاء، كما تكرهُ ربطَ القانون بمواريث الدين إجمالًا، وهي تتظاهرُ بأنها تُجافي الأديانَ جُملة،وهذا كذبٌ، فهي ناشطة في مُحاربةِ الإسلام وحدَه". ومما قاله عن الكيان الصهيونى: "إنَّ زوالَ اسرائيلَ قد يسبقه زوالُ أنظمةٍ عربيةٍ عاشتْ تضحكُ على شعوبها"!
أعلنَ "الغزالى" نفورَه من التشدُد والغُلو، حيث قال: "الإكراهُ على الفضيلة لا يصنعُ الإنسانَ الفاضلَ، كما أنَّ الإكراهَ على الإيمان لا يصنعُ الإنسانَ المؤمنَ؛ فالحرية هي أساس الفضيلة"!! كما استشرفَ، رحمه اللهُ، حالَ المسلمين مُبكرًا في التعامل مع الدين، فكان مما قاله في تشخيص هذه الحالة: "هجرَ المسلمونَ القرآنَ إلى الأحاديث، ثم هجروا الأحاديثَ إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوالَ الأئمة إلى أسلوب المُقلدين، ثم هجروا أسلوبَ المفكرين وتزمتهم إلى الجُهَّال وتخبُطِهم".
كانتْ نظرة "الغزالى" إلى جوهر الدين أكثر تقدمًا من جميع دُعاة التجديد و"أدعيائه"، حيث قالَ: "إنَّ كلَّ تديُّن يُجافي العلمَ ويُخاصم الفكرَ ويرفضُ عقدَ صُلح شريفٍ مع الحياة هو تديُّنٌ فقدَ صلاحيتَه للبقاء. التديُّنُ الحقيقيُّ ليس جسدًا مهزولًا من طول الجوع والسهر، ولكنه جسدٌ مُفعمٌ بالقوة التي تُسعفه على أداء الواجبات الثِّقال، مُفعمٌ بالأشواق إلى الحلال الطيب من متاعٍ".
حذَّرَ "الغزالى" مما وصفه بـ "التديُّن المغشوش"، باعتباره آفة كلِّ عصر، فكتب: "التديُّنُ المغشوشُ قد يكونُ أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ. إنما فسدتْ الرعية بفسادِ الملوك، وفسادُ الملوك بفسادِ العلماء، فلولا القضاة السوءُ والعلماء السوءُ لقلَّ فسادُ الملوك خوفًا من إنكارهم".
كما سخرَ، رحمه الله، مما اعتبره "إيمانَ الأغبياء" و"تقوى العَجَزة"، فأعلنها صراحةً: "إني أكرهُ إيمانَ الأغبياء؛ لأنه غباوة تحولتْ إلى إيمان، وأكرهُ تقوى العَجَزة؛ لأنه عجزٌ تحوَّلَ إلى تقوى"!
حمَّلَ "الغزالى" أصحابَ التديُّن الزائف وأهلَ الغُلو والتطرُّف مسئولية كراهية بعض الناس للدين، فقالَ: "إنَّ انتشارَ الكفر في العالم يحملُ نصفَ أوزاره مُتدينون بغَّضوا اللهَ إلى خلقهِ بسوءِ صنيعهم وسوءِ كلامهم".
الدينُ الحقيقىُّ عند "الغزالى" هو المُعاملة والتطبيقُ الصادقُ لجوهر الدين، لذا نراه يتساءلُ مُستنكرًا: ما قيمة صلاةٍ أو صيامٍ لا يُعلِّمانِ الإنسانَ نظافة الضمير والجوارح"؟!
ثمَّنَ "الغزالى" إعمالَ الإنسان لفكره وعقله، حتى وإنْ ضلً، لأنه حتماَ سوف يعودُ إلى رشده، فقال: "أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكرُ وإنْ ضلَّ، لأنه سيعودُ إلى الحقِّ. ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكرُ وإنْ اهتدى؛ لأنه سيكونُ كالقشَّة في مهبِّ الريح"!
أدركَ "الغزالى" أنَّ الباطلَ قد يكونُ قويًَّا يومًا، ولكنه لنْ يستمرَ طويلًا، مُشددًا على ضرورة عدم الافتنان به، فقال: "هناك ساعةٌ حرِجةٌ، يبلغُ الباطلُ فيها ذُروة قوته، ويبلغُ الحقُّ فيها أقصى مِحنته، والثباتُ في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحوُّل".
أمَّا التدوينة الأروعُ، من وجهة نظرى، والتي تعكسُ فهمًا صادقًا ومُتقدمًا لجوهر الإسلام، فهى: "كلُّ دعوةٍ تُحبِّبُ الفقرَ إلى الناس٬ أو تُرضيهم بالدون من المعيشة٬ أو تُقنعهم بالهون في الحياة٬ أو تُصبِّرُهم على قبول البخس، والرضا بالدنيَّة٬ فهى دعوةٌ فاجرةٌ٬ يُرادُ بها التمكينُ للظلم الاجتماعى٬ وإرهاقُ الجماهير الكادحة في خدمة فردٍ أو أفرادٍ. وهى قبل ذلك كلِّهِ كذبٌ على الإسلام، وافتراءٌ على الله.”
وهكذا تترى حِكمُ ومواعظُ الشيخ "محمد الغزالى"، وتبدو مُعاصرة ومُتجددة، رغم ما مضى عليها من عقود، ما يجعلها جديرة بأن تضمها دفتا كتابٍ؛ حتى تكونَ مرجعًا لكل باحث، ومصدرًا لكل مهتمٍّ.. رحمَ اللهُ قائلَها، وأحسنَ مثواهُ.