رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

لما كنا صغيرين


كعادتى كل صباح استهل يومى بسماع الإذاعة، وخاصة محطة «البرنامج العام» التي استفتحها صباحًا بقرآن السادسة مع قليل من القهوة، ثم الاستمتاع بنشرة أخبار السابعة، ومع حلول يوم الجمعة من كل أسبوع وقبيل الصلاة تنضم الإذاعات الرسمية كلها في نقل موحد للشعائر من أحد المساجد، في لوحة ذكريات تتشكل أمام عينى حاضرا لما كان في الماضي.


قادتنى الصدفة بالأمس عقب الصلاة لسماع أحد البرامج القديمة بموسيقاه التصويرية الشهيرة، وعيت على سماعه ومتابعته منذ كنت في العاشرة من عمرى، برنامج (٧٤٧١٢٠ إذاعة) والذي تغير اسمه الآن إلى (٢٥٧٨٧١٢٠ إذاعة).

لحظات الترقب وانتظار معرفة الجانى والاتصال الهاتفى في محاولة لاقتناص الجائزة البسيطة، الهاتف المشغول باستمرار، لحظات النشوة العارمة حين يخلو الخط ويدق الجرس، حينما ينصت أحدهم إلى إجابتى، وأترقب الآراء وأراها قد اتفقت مع إجابتى.

تنقلت بالذاكرة إلى حكايات أبي عن حفل سيدة الغناء العربي أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر، حين كانت العائلة تجتمع حول الراديو كى ترتشف جرعة فنية مفعمة بالحب في أيام الصفاء.

استدعيت المزيد والمزيد إلى الذاكرة المرهقة بأعباء الحاضر، ذاكرة بات يغرقها غوغائية وعشوائية، وتسيطر عليها روح السرعة والتجرد من الروح، من الإحساس، متنقلا إلى واحة الماضي القريب، علّنى أجد بها متنفسا يذهب تعب الروح وتخمة العقل.

الحنين إلى شواطئ الماضي بكل تفاصيله، مع مسحة ابتسامة عابرة لأيام ولّت ولن تعود، كنا نلهو فيها أطفالا وصبية، لحظات كانت تجسد حياة بسيطة، وربما لا تمثل شيئا لأمنيات وطموحات الجيل الحاضر وأمنياته الباردة مطلقة العنان.

اعتبر نفسي نسبيا، حسب مزاعم بعض الأصدقاء، منتميا حاليا إلى مرحلة الشباب، وقد قاربت على أعتاب عامى الثالث والأربعين إن قدر الله لى العمر، على حين لا أرى نفسي هذا مطلقا، وقد أصبحت أرقب مثلما يرقب من سبقونى إلى الوجود نظرات شاخصة وحنين إلى رشفات الماضي.

تتوه نفسي في الأيام الحاضرة المتجمدة، يتوقف العقل عند لحظات ذهبت في كل شيء، قبل طغيان الحياة الإلكترونية، يوم هاتفت من أحببت لأول مرة عبر الأسلاك، حينما خطت يمناى أول خطاب مسلسل من أربع صفحات من العشق احتضنها صندوق البريد الأحمر، حينما كان يومي ينتهى بختام إرسال التليفزيون، ليسود معه الهدوء في كل شيء، ويصمت الشارع، وتسكن الحياة، وتبدأ رحلتى الليلية على مصباحى الصغير مع رواية جديدة من روايات الماضي.

لا أدرى هل هذا حالى فقط أم حال جيل بأكمله يشتاق إلى ذكريات سكنت، يعيش تفاصيلها فيتذكر ما كان من دفء وبساطة، لحظات رغم ضآلتها كانت كل شيء، يتمنى لو تعود ونعود معها لا نحمل من هموم الدنيا شيئا، إلا ما تتوقعه أسقف الطموحات البسيطة من لعبة جديدة أو فيلم سينما، أو ألبوم غنائي، أو رغبة في رقم هاتف زميلة الفصل، تتوق النفس إلى أيام المحبة النقية، يوم أن كانت هناك أسرة تضم، وجناحان يرفرفان أب وأم.
Advertisements
الجريدة الرسمية