رئيس التحرير
عصام كامل

كوبرى قصر النيل


من يقرأ هذا العنوان قد يتصور أننى سأتحدث عن تاريخ الكوبرى العريق وما مر عليه من أحداث، ولكن التاريخ لا يعنينى فهذا المجال له أساتذته الذين يفهمونه أكثر منى، والسؤال لماذا كوبرى قصر النيل بالتحديد؟..


يخطئ كل من يظن أن الكوبرى لا علاقة له بما نعيشه اليوم وأنه مثل كل الجمادات التي نمر عليها ونطأها بأقدامنا بل نلوثها بخطواتنا وهى صامتة لا تستطيع أن تصرخ أو تستغيث أو حتى تلقينا بعيدا عنها.

لقد مررت مؤخرا على الكوبرى ليلا، وكان يوم عيد من الأعياد الكثيرة التي أصبحنا نحتفل بها بدون فرحة ولا بهجة وإنما فقط بحكم العادة، أثناء مرورى فوق الكوبرى لأدخل منطقة وسط البلد نظرت إلى وجوه الناس المنتشرين من حولى ووجدت ملامح شديدة الغرابة لم أعهدها في المصريين من قبل، ملامح مخيفة ونظرات يملؤها الغضب أحيانا والتمرد والاستهتار أحيانا أخرى وبين الاثنتين نظرات حزينة، مكتئبة، محبطة حتى وهى تحاول الابتسام فرحة بالعيد تقطر التعاسة من بسماتها.

اندهشت كثيرا وتساءلت بينى وبين نفسى، ماذا أصاب المصريين؟، لماذا أصبحوا بهذه الوجوه الغريبة؟، وأين اختفت ملامح الطيبة والحنان التي كانت تضمنا جميعا؟، نظرت إلى صديقتى التي كانت تسير إلى جوارى وسألتها: شايفة الناس شكلهم غريب إزاى؟..

فوجدتها تتلفت حولها بترقب ثم أجابتنى: بصراحة أنا خايفة ودى أول مرة أخاف وأنا ماشية في الشارع، تعالت ضحكتى وأنا أقول لها: أنتِ تخافين؟ ده أنتِ قعدتِ 18 يوما في التحرير وشوفتِ جمعة الغضب وما خوفتيش إيه اللى حصلك؟..

سؤال ظل يلح على عقلى، ونحن نصل إلى نهاية الكوبرى ونبدأ في الدخول إلى ميدان التحرير، إيه اللى حصل؟، والتفت ورائى أنظر نحو الكوبرى الصامت الذي يئن تحت وطأة الزحام على جانبيه فتخيلته يجيب على سؤالى بقوله وكلماته تملؤها المرارة " سيدتى أنا الحد الفاصل بين عالمين، عالم ثار من أجل حريته، وعالم قبع في منزله ينتظر النتائج، عالم ناضل لينال حياة أفضل وعالم كان أصحابه يتناقلون فيما بينهم قولا واحدا، نستطيع أن نغادر منازلنا في أمان لكن بعيدا عن الكوبرى.

لقد أرادوا الابتعاد عنى ولو كانوا جاءوا للفظتهم بكل شجاعة وكبرياء"، تماديت في حوارى الجنونى مع الكوبرى ووجدتنى أسأله مقاطعة: دى مش إجابة عايزة أعرف برضه إيه اللى حصل للناس؟..

فأجابنى "على أرضى التي أنهيتى سيرك فوقها منذ لحظات قتل من قتل وضرب من ضرب وتحدى الشباب كل شىء ليمنعوا من لا يستحقون الثورة التي قامت دفاعا عنهم من المرور والدخول إلى عالم التحرير السحرى ولكن فجأة اختفى هؤلاء الشباب واحتل أرضى غزاة قادمون من كوكب آخر اسمه الكذب والنفاق والإجرام، لوثوا جنباتى، أشعلوا النيران في تاريخى، طردوا من يستحق ومنحونى لقمة سائغة لمن لا يملك ليمنحنى بدوره لمن لا يستحق".

أفقت على صيحة صديقتى تنادينى: أنتى بتكلمى نفسك؟، فوجدتنى أجيبها في وجوم: لأ باكلم الكوبرى.. نظرت نحوى في اندهاش كبير وجذبتنى بقوة من يدى وكنا قد وصلنا إلى شوارع وسط البلد وهى تصرخ: "تاكسى، تاكسى"، وألقت بى داخل السيارة قائلة:

"اركبى بسرعة نرجع البيت قبل ما يهجموا علينا يقطعونا"، نظرت إلى الكوبرى نظرة الوداع فلمحت الدموع تترقرق على أعمدته، وهو يردد في حزن "عودا إلى منزليكما، فهذه ليست مصر، ولا هؤلاء هم المصريون سأنتظركما، عندما تعود مصر لنا من جديد".
الجريدة الرسمية