درس خصوصي
مبادرة دشنها مجموعة من مدرسي إحدى المناطق، صفق لها الجميع، وأشادت بها الأسر، بدايتها كانت إعلان أحدهم عبر إحدى الصفحات العامة أنه وبشكل شخصي ورفقا بأولياء أمور المنطقة، فلن يتقاضى أي مقابل مادي نظير أجر شهر أغسطس عن الدروس الخصوصية التي يستقبل طلابها في منزله، مع استعداده أيضا لتقاضي نصف أجر عن شهر سبتمبر، فقط لوجه الله، ورفقا بالآباء الذين أرهقت كواهلهم المواسم والأعياد المتتالية ونفقاتها.
وانهالت عقب هذا عبارات المدح والثناء والشكر من الأهالي على المعلم، واصفين إياه بالحلم والرأفة، ثم استفز هذا الإعلان آخرين من باب المنافسة، فأطلقوا واحدًا تلو الآخر مبادرات مشابهة، يرون أنها في صالح أولياء الأمور ورحمة بجيوبهم وفى الحقيقة إن هي إلا هدنة مؤقتة لجيوب الأباء يستعد بعدها هؤلاء للاستحواذ على ما بها مباشرة.
سألت ابن صديق لى وهو طالب في الصف الثانى الثانوى عن استعداده للعام الدراسي الجديد، فصدمنى قائلا: «محدش بيروح المدرسة، وكله بياخد دروس في كل المواد».
مبادرات وهمية تصب في صالح المدرس فقط، وتشجعه على التوحش والمزيد من الجشع، حتى وإن كان ظاهر تلك المبادرات خيرا.
هناك المدرس الذي لا ينتمى للعمل في مدرسة، وليس له أي مصدر دخل سوى تلك الدروس، ولا لوم عليه كونه لم يقصر في عمله الأصلى لحساب البيزنس الخاص، وهناك أيضا من حسم أمره، وسلك طريق الرزق في مكان آخر مثل السفر للخارج في إجازة بلا راتب، وهذا أيضا لا ضرر فيه بل هو في سبيل السعى على لقمة العيش، نفرق بين الحالتين السابقتين وبين مدرس مقصر في عمله الأساسي في المدرسة عن تراخى وإهمال وكسل وتحجج بضعف الراتب، فيخرج الطلاب من تحت يديه بعد انتهاء حصته برءوس خاوية.
وبالتالى يجد هؤلاء الطلاب أنفسهم عطشى للعلم، والأهم من العلم، حسب معتقدهم، نيل الرضا في درجات أعمال السنة، وإحساس سربه هؤلاء المدرسون للطلاب وأسرهم، بأن الطالب بدون درس خصوصى، راسب لا محالة ومتخلف عن زملائه.
يفتح المدرس أبواب مدرسته «الملاكى» التي تصب عوائدها في جيبه فقط، مع وعد أيضا بالمزيد من الرحمة والرفق بالغلابة من خلال بعض العروض المجانية على غرار (ادفع حصتين وخذ الثالثة مجانا)! ولم لا فالأمر يلزمه قليل من الذكاء والتفكير والدعاية.
لا ضير مطلقا من محاولات تحسين الدخل من أجل تلبية متطلبات الحياة، ولكن ليس بالتقصير في جهة لها أولوية لحساب أخرى.
لا أجد منطقا يبرر وصف مدرس يقصر في عمله الأساسي لصالح تحويل دفة العملية التعليمية إلى بيته، بـ«الطيبة والخلق والحلم والرحمة»، وربما أجد من يطنطن بأن المرتبات قليلة ولا تكفى، ولكن الحقيقة هي أن «العقد شريعة المتعاقدين»، وحين قبل تلك الوظيفة وارتضاها، كان يعلم حجم راتبها.
أخطأ بعض أرباب التعليم حين أشاعوا قيما مشوهة عن الرفق والرحمة، والإحساس بالفقير، وهى تحمل في طياتها دعاية مغلفة تتمايز عن الاعلانات الورقية، وكتابات الحوائط، بالانتشار السريع واللعب على وتر المشاعر الإنسانية.
لو استمر الحال على هذا المنوال فربما تغلق المدارس المشيدة بملايين الجنيهات أبوابها بـ«الضبة والمفتاح»، وسينصرف عنها الطلاب نهائيا، وستُنقل عما قريب لافتات المدارس كى تعلق على بوابات المنازل، وربما نقرأ قريبا، لافتات من عينة: (مدرسة الأستاذ فلان وولده). رفقا بالبسطاء فلهم حقوقا في ضميركم، ولنبتعد قليلا عن تقمص أدوار الرأفة الزائفة، ولنتوقف عن استغلال طيبة الناس ونقاء نياتهم.