رئيس التحرير
عصام كامل

بيت "العقاد".. عشة حمام!!


مع بدايات عملي بالصحافة، اقترحت على الأستاذ "وحيد غازى" رئيس تحرير جريدة الأحرار (عليه رحمة الله) إعداد سلسلة من الملفات عن بيوت وأبناء الرواد في مجالات الأدب والفن والثقافة، وقد لاقي اقتراحي قبولا، وخصصت له مساحة تعتمد على التركيز الشديد دون الأطناب الممل..


أذكر يوم أن حصلت على موعد مع أسرة "عامر العقاد"- الحارس في ذلك الوقت على كل ما ترك الأديب والشاعر والصحفى القدير "عباس محمود العقاد" أنه عندما وصلت إلى البناية التي كان يقيم فيها عملاق المعارك الصحفية والأدبية.. الأسطورة التي ملأت الدنيا صخبا جميلا ومعارك من الوزن الثقيل، لم أصدق نفسي وأنا القادم من أعماق الريف المصري أنني سأدخل حالا إلى صالون "العقاد"، استقبلتنى الأسرة بترحاب، وجلست على نفس المقعد الذي كان نورا يضيء الدنيا بأفكاره، وأعترف أننى فقدت القدرة على السؤال أو الانتباه إلى ما يقال.

هنا في البناية رقم ١٣ من شارع شفيق غبريال الأقرب إلى ميدان روكسى، كان صالون الجمعة الذي يجمع نجوم الفكر والأدب والصحافة والسياسة، في فترة تاريخية حيوية، لا يزال نبضها يسرى في بدن الأمة العربية كلها، هنا عاش "العقاد" مع أفكاره الحبيسة داخل نفسه المتخمة بما لذ وطاب من علوم الدنيا، هنا عاش "العقاد" الذي ترك إرثا ثقافيا عظيما، وترجم ما تجود به نفسه المتمردة على القوالب والحدود والموروثات البالية، هنا خط "العقاد" كتابه "في بيتى"، ومن هنا خرجت إلى النور أفكار لا تزال تنبض بالحياة إلى يومنا هذا.

كانت "عبير عامر العقاد" فتاة عشرينية، قد ورثت من جذور "العقاد" حماسة وتمردا وصلابة، قلما تجدها في أقرانها من بنات جيلها، كانت جدران البيت تحتفظ بشموخ وملامح صمود ورثتها من أشهر ساكن للبيت، وربما للضاحية بأسرها، كان للبيت مهابة تنطق بها الحوائط الشاهدة على فترة تاريخية هي الأبهى والأعظم في تاريخنا الأدبى والثقافى، كان الشارع هادئا وديعا، يخالف كل صخب صاحب أشهر المعارك الأدبية والسياسية في تاريخ هذه الحقبة.

سنوات مضت تنهشها سنوات في عمر ضاحية روكسي البديعة، تغيرت الأحوال ونقلت بعض آثار الراحل العظيم إلى متحفه بمدينة أسوان التي عشقها، واختار موضع إقامته بروكسي تشبها بجو أسوان، نعم كان "العقاد" يرى في روكسى أيام أن كانت أبية واسعة، دقيقة الملامح، بفطرة النشأة وعظمة المولد.. كان يراها كما هي أسوان في مخيلته، كان ينظر من نافذته إلى أفق بعيد متسع قبل أن تزحف كل عوامل القبح إلى عالمه بعد رحيله.

أصبح الشارع سوقا تجاريا فوضويا، وزحفت كل ملامح الإهمال لتنهش ما تبقي من عطر "العقاد"، مثل كل شيء جميل سرحت علامات الإهمال على المبنى والشارع والحى، وأصبح بيت "العقاد" في مرمى نيران العبث، وفد إلى البيت ساكن جديد، ربما يجهل أن البناية غير كل البنايات، وأن البيت غير كل البيوت، وأن صاحب الثقافة الموسوعية، ملك الإرادة الإنسانية في التعلم والتحول إلى منارة لم يأت التاريخ بمثلها فعل مالم يفعله آخرون بالبيت، وبالتاريخ، وبالقيم.

أنشأ الساكن الجديد "عشة حمام" فوق سطح المنزل، نعم بيت "عقاد" الأمة تحول إلى عشة حمام، بيت صاحب "العبقريات"، و"سارة"، و"في بيتى"، أصبح عشة حمام، ورغم تنبه وزارة الثقافة إلى أهمية الدار وصاحبها، وصدور قرار باعتباره عمارة فريدة لا يجوز هدمها أو تغيير ملامحها فإن القرار ظل حبرا على ورق، وهاهو بيت "العقاد" النموذج الفريد يتحول إلى مجموعة من فتارين البيع والشراء وسطحه "عشة حمام"!!

إن الدولة المصرية التي أعادت للرئيس "محمد نجيب" حقوقه، بعد عقود من الظلم والإهانة والإساءة إلى تاريخه، ونضاله، وإخلاصه كفيلة بإعادة بعض ملامح هويتنا بين جدران بيت "العقاد"، إن الدولة المصرية في سعيها الحثيث إلى الغوص في أعماقنا الثقافية وتثبيت الهوية استطاعت في أيام قليلة أن تقيم متحفا عظيما لأديب نوبل "نجيب محفوظ" بعد توهان لأكثر من ثلاثة عشر عاما، إن هذه الدولة كفيلة بأن تعيد إلى بيت "العقاد" مهابته ومكانته، ليتحول إلى إطلالة نور تشع بضيائها على الأجيال الجديدة.
الجريدة الرسمية