رئيس التحرير
عصام كامل

حتى إشعار آخر!


"العجز" من التعريفات الكثيرة الواضحة للإنسانية، ضعف السيطرة على مصادر الرضا عن النفس، ورضا الناس والأشياء عنا، الإنسانية كثيرًا ما تكون كوابيس الخوف، صراخ طفل يفزع بشدة، حين لا يجد من يعتمد عليه، في كل لحظة يبقى فيها بمفرده، وأحيانا تعني الرعب الذي يسكن داخلنا، ولا تمحيه مرارة الهجر.


المجتمعات وخاصة العربية، في حاجة لآليات وضوابط سياسية واجتماعية وفكرية لمعالجة الظواهر البغيضة، التي تعزز الشعور بالعجز، وعلى رأسها التمييز والطبقية، وغيرها من الأمراض الاجتماعية، التي تفشت بطريقة تدعو للتأمل، وخاصة في البلدان التي كانت حتى وقت قريب، تُرقى العصامية، وتؤمن بتطرف، بالحق في الطموح، والحق في الحصول على فرص أخرى لا تنتهى.

هذه التشوهات التي تتكالب علينا، لن تعالجها التقارير الصحفية عن تفوق أبناء الفقراء في الثانوية العامة، أو في مجالات محددة، ولن تُعالج باستقبال بعض المسئولين التنفيذيين، والنواب، ورجال الأعمال، للبسطاء في مكاتبهم، للاحتفال بتفوق أبنائهم في الدراسة، ثم ينتهي الأمر بصورة فوتوغرافية معهم، سواء على سبيل التكريم، أو ركوب الموجة، لتصبح بعدها مثار جدل على وسائل التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ورافض، ناقم ومتعاطف، وبين هذا وذاك، يصبح الابن والابنة، والأب والأم، والعائلة بأكملها، ضحية لمهاترات سطحية وعبثية لا طائل منها، اللهم إلا كشف المزيد من تناقضات وأمراض المجتمع.

في العام الماضي، كنت أحد أطراف هذه السجالات بتقرير صحفي كتبته عن أحد الشباب البسطاء المتفوقين في الثانوية، وظل التقرير مثال جدل على مواقع التواصل، ودافعت وقتها بطريقة لم تكن بالرشد ولا النضج الكافي، عن المنطق الإنساني للتقرير، خاصة أني أحد المطالبين دائما، بضرورة التعامل مع الفقر برقي واحترام، ووسائل عصرية للتغلب عليه، ولكن مع من نتحدث.. ومتى.. وكيف!

طوال عام كامل، اطلعت على دراسات كثيرة، عن قوة التحيزات في تشكيل قرارات الإنسان اليومية، وفي كل جانب من جوانب الحياة تقريبًا، بسبب تورم حاد في الضمير، من جراء إحساس بالذنب، لتوريط طالب في مثالية لم يسع إليها، وربما ستصبح عبئا عليه طوال حياته، بعدما اضطر للخروج في برامج تلفزيونية، للحديث عن السيدة والدته، ومشوارها مع المعاناة، بما اقتحم خصوصية العائلة وطرحها للعلن ــــ دون إذن مسبق ــــ وأثار ضجة لا طائل من خلفها، إلا وضع الطالب في تحديات لا ولن تنتهي.

التحيز اللا شعوري يتغلغل بشكل كبير في تقييمنا للآخر، يتحكم في نظرتنا له، لذا من المعروف عالميا، أن هناك طريقتين للتعامل مع بنود الضعف الإنساني، إما القبول أو الإنكار، القبول يعني الاعتراف، والانفتاح على نقاط الضعف، مهما كانت العواقب، ومهما كانت قسوة الآخر الذي يريد إجبارك أولا على البوح باعترافات موثقة بالعجز، كشرط لدعمك ومساعدتك، لذا هناك من يفضل الإنكار، ويعتبره الرهان الأكثر أمانًا له، مهما كانت خسائره.

التراكم الإنساني منذ القدم، يعتبر الضعف أمرًا مخزًيا، يتهرب من الاعتراف به أغلب الناس، وخاصة في دول العالم الثالث، والمجتمعات التي يشاع فيها الجهل والأمية الثقافية، فيستخدم كمبرر للعدوان التفاعلي على الآخر، وتصبح كل نقطة ضعف، سلاح بتار للانتقام والتحقير والإرباك على أقل تقدير.

ليست بهذه الطريقة تقوّم المجتمعات، وحتى يكون هناك تحركات من ذوى الشأن لمعالجة مثل هذه القضايا بطريقة علمية صحيحة، دعوا الناس وشأنهم، امنحوهم الحق في الخصوصية وامتلاك ناصية قرارهم، للتعامل بطريقتهم التي مع الظروف السيئة المكونة لإنسانية تشوهت على مدار عقود مضت، ولا نعرف غيرها للأسف، حتى إشعار آخر!

الجريدة الرسمية