رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

افتكاسة كليات القمة!


الحقيقة أن كثيرا منا غير مُدرك أن نهاية مرحلة التعليم قبل الجامعي "الثانوية العامة" في مصر هي بمثابة ميلاد مولود غير كامل، فهو غير مؤهل للتعليم الجامعي وفي بعض الأحيان نصف متعلم، وأنصاف المتعلمين أخطر على المجتمع من الجهلاء، وقد يكون هذا الواقع هو النتيجة الحَتمية لفقر بيئة التعليم وعدم جودة العملية التعليمية في مصر، إضافة إلى السلوك الأناني النمطي عند الكثير من أولياء الأمور!


ومن يطالع الإحصائيات والتصنيفات العالمية الخاصة بمستوى جودة التعليم عالميا وترتيب مصر فيها، يجد ما لا يُسعده، وإن كنت في غير حاجة للاستشهاد بهذه التصنيفات في مقالي، حيث أعمل في التدريس الجامعي في مصر لأكثر من ٢٠ عاما، كنت فيها شاهد عيان على عدم صلاحية السواد الأعظم من الطلاب الحاصلين على مجموع أكثر من ٩٦٪؜ في الثانوية العامة للدراسة الجامعية، على الرغم من التحاقهم بكليات القمة كما يطلق عليها في مصر، وذلك حسب تقديري الشخصي المُتجرد!

أعلم أن سوء جودة العملية التعليمية واقع لا دخل لأولياء الأمور به، لكن ما يفعله أولياء الأمور للتفاعل مع هذا الواقع، يتسبب في كارثة حقيقية، حيث يدفع أولياء الأمور أبنائهم بكل قوة نحو الحصول على أعلى الدرجات وبخاصة في الثانوية العامة ووضع أبنائهم أمام خيارين، لا ثالث لهم من البداية، إما دكتور وإما مهندس، دون النظر في ميول الأبناء في الدراسة أو هوايتهم الشخصية أو حلمهم لأنفسهم بعيدا عن أمنيات الأب والأم. 

بل وصل الأمر أن الكثير من أولياء الأمور وبعد انتهاء ماراثون مكتب التنسيق، لديهم الاستعداد لبيع أعضائهم حتى يلتحق أبناؤهم بأكذوبة كليات القمة الخاصة، مع العلم أن التعليم الجامعي الخاص في مصر لم يحقق الجدوى التنافسية منه، كما هو متعارف عليه في العالم كله، ولكي تعلم الفارق عزيزي القارئ بين ما يطلق عليها الجامعات الخاصة في مصر والعالم، عليك أن تعلم فقط أن جامعة هارفارد بالولايات المتحدة جامعة خاصة، ثم أترك لك التفكير والحُكم!

الحقيقة ما أراه كل عام وقت ظهور نتيجة الثانوية العامة يقلقني كثيرا، خاصة مع ارتفاع مجموع الدرجات الحاصل عليها الطلاب وما يترتب عليه من ارتفاع مستوى طموح الطلاب وأولياء أمورهم حسب معتقداتهم، واستخدام المجموع الكلي للدرجات كمعيار وحيد للمفاضلة بين الطلاب أمام مكتب التنسيق.

وهو الأمر الذي أصبح معه باب الجهل مفتوحا على مصراعيه، وأصبحت كل الكليات بعد الطب والهندسة، كليات شعبية، من الدرجة الثانية والثالثة، يتخرج منها مدرس ومحام ومحاسب وجيولوجي وكيميائي وغيرهم غير محبين لمهنتهم على أقل تقدير، وهؤلاء يمثلون السواد الأعظم في المجتمع، ببساطة شديدة لأنهم لم يدرسوا هذه التخصصات برغبتهم، خاصة بعد أن أصبحت رغباتهم الوحيدة هي كليات القمة كما يرى آباؤهم. 

ومن يستطيع أولياء أمورهم إلحاقهم بالكليات الخاصة يتخرج معظمهم طبيب نصف متعلم أو مهندس نصف متعلم وللأسف حتى المهندس والطبيب خريج الجامعات الحكومية، إذا تفوق في الطب تجد أكثرهم غير مثقف ولا يعلم أي شيء بخلاف الطب، لا يتذكر أي شيء عن التاريخ أو الجغرافيا ولا يُجيد الحديث والكتابة باللغة العربية، أما عن الإنجليزية فحدث ولا حرج!

وهنا لن أتحدث كثيرا عن حلم إصلاح التعليم في مصر ولكني أود أن أختصر فقط مشهد الالتحاق بالجامعة في الولايات المتحدة كما عايشته مع أولادي، حيث لا يوجد مكتب تنسيق عام ولا امتحان موحد ولا يوجد شيء اسمه الثانوية العامة أصلا، فالدراسة الثانوية هي مرحلة دراسية عادية متممة للتعليم قبل الجامعي والموضوع بسيط جدا، حيث يستطيع الطالب التقدم إلى الجامعة التي يرغب في الالتحاق بها بعد تحقيق الحد الأدنى من الساعات الدراسية المؤهلة للتقدم للجامعة، نعم يتقدم الطالب للجامعة وليست الكلية!

إذا لا بد أن يتم قبول الطالب في الجامعة أولا ثم في القسم الذي يرغب في الدراسة فيه بعد ذلك، فالتنافس يوجد بين الجامعات، وبالتالي يوجد في الولايات المتحدة والعالم المتقدم كله ما يسمي جامعات القمة وكل جامعة لها متطلبات قبول ومعايير متعددة خاصة بها وهو شيء مقبول ومنطقي، ولكن لا يوجد شيء اسمه كليات القمة على الإطلاق!

لذلك عندما تقوم بسؤال أي طالب في الولايات المتحدة عن دراسته يذكر اسم الجامعة، وهذا الفارق البسيط في المفهوم والتكوين هو الذي يصنع الفارق الكبير في المُنتج، فعندما يلتحق الطالب بإحدى جامعات القمة، يستطيع أن يدرس التخصص الذي يريده بكل ثقة وفخر، حسب رغبته وهوايته وقدراته الحقيقية، بالإضافة لكل ذلك هناك مقررات أساسية لا بد من دراستها لطلاب الجامعات الأمريكية الحكومية والخاصة في كل التخصصات، مثل التاريخ واللغة والأدب والإدارة حتى يتمتع خريج الجامعة في أي تخصص بالحد الأدنى من الثقافة العامة!

إن السبيل إلى تقدم ورفعة الأوطان لا يمكن أن يتم صناعته في مجتمع يتربع فيه التمييز بين مجالات التعليم المختلفة ومن ثم بين الخريجين والوظائف، الأمر الذي يصبح معه المجتمع غير سوي وهش ويسيطر عدم الرضا الدائم على أفراده ويصبح الاكتئاب هو السبيل والتخلف هو النتيجة الطبيعية!

أعلم أن مقالي هذا لن يغير من الأمر شيئا وخاصة في عقول أولياء الأمور، وقد كنت أفكر مثلهم يوما، ولكني أتضرع إلى الله بالدعاء، أن يصلح لنا أمورنا ويرحم مصر من افتكاسة كليات القمة!
Advertisements
الجريدة الرسمية