رفع سن المعاش وغول البطالة
شغلتني في الفترة السابقة مناقشات لجنة القوى العاملة بمجلس النواب التي دارت حول رفع سن المعاش إلى 65 عاما، وقد كنت أود أن تأخذ مساحة أكبر من النقاش لتوضيح الإيجابيات والسلبيات لذلك القرار، الذي أظن أن الدولة به تحارب نفسها وجهودها المختلفة للارتقاء بالشباب وسوق العمل..
ولكن ما حدث هو أن وافقت اللجنة على المادة (41) من مشروع قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الجديد، والتي تنص على توحيد سن المعاش ليصل إلى 65 سنة في عام 2040، وتتضمن رفع سن المعاش بالتدريج، وأن يبدأ التطبيق الفعلي بدءا من عام 2032 برفع سن التقاعد إلى61 سنة، ويتم زيادة سنة خلال كل عامين.
ووضعت الحكومة بمقتضي مشروع القانون وبناء على المادة 41، خطة لرفع سن المعاش لمعالجة العجز المالي والاكتوارى في نظام المعاشات، وتخفيف العبء عن الخزانة العامة، لتكون 65 في أول يوليو 2040 بالتدرُّج وبقرار من رئيس الوزراء، بحيث يكون سن المعاش 61 عامًا في 2032، و62 في 2034، و63 في 2036، و64 في 2038، و65 عامًا في 2040، على أن تكون سن المعاش للمؤمَّن عليهم من فئات أصحاب الأعمال والعمالة غير المنتظمة 65 عامًا.
وحجة هذا المشروع، هو توحيد سن المعاش عند 65 سنة، ومساواة جميع الفئات من العاملين بأصحاب الأعمال والعمالة غير المنتظمة، وحتى يتم توحيد المزايا التأمينية للجميع، وأكدت الحكومة أن كل دول العالم ترفع سن المعاش. وقالت الحكومة إن عدد العاملين بالدولة حاليا نحو 5 ملايين، وخلال السنوات العشر المقبلة، وبعد تطبيق هذا القانون لرفع السن سيصل عدد العاملين في الدولة إلى 3 ملايين أو 2.5 مليون موظف.
وخلال هذه الفترة "السنوات العشر المقبلة" سيقل عدد العاملين بالجهاز الإداري للدولة نحو 30%؛ وذلك لأن هناك 160 ألف موظف يخرجون إلى المعاش سنويا، وهذا ما تعلنه وزارة التخطيط، وأن خطة رفع سن المعاش ستعالج العجز المالي والأكتواري في نظام المعاشات، وتخفيف العبء عن الخزانة العامة.
وهذا المشروع من وجهة نظر العاملين هو منتهى المنى، وقمة الأمل، فالعامل يتمنى أن يظل يمارس عمله حتى الموت وذلك من أجل أن تظل قيمته المعنوية ويحافظ على المكتسبات المادية التي تقل إلى أن تصل إلى مبالغ متدنية عند إحالته للمعاش،(وأظن أن أعضاء اللجنة كانوا يضعون أنفسهم نصب أعينهم عند مناقشة هذا القرار غم أنهم لن يستفيدوا منه لكنه العامل النفسي) لكن يجب أن ننظر من منظور آخر يوضح لنا خطورة رفع سن المعاش إلى 65 عاما..
فلو علمنا أن الصبية الآن أقل من 15 عاما تمثل تقريبا 63% من عدد سكان مصر، وأن هؤلاء سيصلون لسن العمل بعد عشرة أعوام تقريبا أي في الفترة التي سيمتد فيها سن العمل إلى 65 فسنفاجأ بأن هذه القوة العاملة الفتية الشابة عاطلة عن العمل وتشتكي البطالة، وهي في السن المؤهلة للعمل مما يخلق لنا كوارث كثيرة أبسطها البطالة التي تؤدي للجرائم والمخدرات.
وتفيد الإحصاءات العلمية أنَّ للبطالة آثارها السيئة على الصحة النفسية، كما لها آثارها على الصحة الجسدية، إنَّ نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل يفتقدون تقدير الذات، ويشعرون بالفشل، وأنهم أقلُّ من غيرهم..
كما وُجِد أن نسبة منهم يسيطر عليهم الملل، وأنَّ يقظتهم العقلية والجسمية منخفضة، كما أن البطالة تُعيق عملية النمو النفسي بالنسبة للشباب الذين ما زالوا في مرحلة النمو النفسي.
وقد وجد أن القلق والكآبة وعدم الاستقرار يزداد بين العاطلين، بل ويمتد هذا التأثير النفسي على حالة الزوجات، وأنَّ هذه الحالات النفسية تنعكس سلبيًا على العلاقة بالزوجة والأبناء، وتزايد المشكلات العائلية. وعند الأشخاص الذين يفتقدون الوازع الديني، يقدم البعض منهم على شرب الخمور، بل وَوُجد أن 69% ممّن يقدمون على الانتحار، هم من العاطلين عن العمل، ونتيجة للتوتر النفسي تزداد نسبة الجريمة، كالقتل والاعتداء بين هؤلاء العاطلين.
ومن مشكلات البطالة أيضًا هي مشكلة الهجرة، وترك الأهل والأوطان التي لها آثارها ونتائجها السلبية، كما لها آثارها الإيجابية. والسبب الأساس في هذه المشكلات بين العاطلين عن العمل هو الافتقار إلى المال، وعدم توفّره لِسَد الحاجة، إن تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ، لا سيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية، ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة، يؤدِّي إلى أن ترتدَّ عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسيًا، مسببة له مشكلات كثيرة.
وتتحول البطالة في كثير من بلدان العالم إلى مشكلات أساسية معقَّدة، ربما أطاحت ببعض الحكومات، فحالات التظاهر والعنف والانتقام توجَّه ضد الحكّام وأصحاب رءوس المال، فهم المسئولون في نظر العاطلين عن مشكلة البطالة. وسيعيد ذلك الأمر – أي رفع سن المعاش إلى 65 عاما- مشكلة البطالة في الوقت التي تعالج الدولة فيها هذه المشكلة، فقد أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مايو الماضي أن معدل البطالة في البلاد هبط إلى 8.1 % في الربع الأول من هذا العام مقابل 10.6% قبل عام، ليصل عدد العاطلين عن العمل إلى 2.267 مليون من قوة العمل البالغة 27.968 مليون فرد.
ومنذ شهور قليلة أعلنت محافظة الشرقية، أنه تم تعيين المؤهلات العليا كعمال نظافة بالمحافظة لسد العجز، وقال إنه تم تعيين شباب خريجي كليات الاقتصاد والعلوم السياسية وآداب إنجليزي وهندسة، وفى الوقت الذي أعلنت فيه وزارة التربية والتعليم، في العام الماضي مسابقة للتعاقد مع معلمين مؤقتين للفصل الدراسي الثاني، فتقدم لها نصف مليون شخص لشغل نحو 50 ألف وظيفة منهم خريجو طب بشرى وحقوق.
وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على قلة وندرة فرص العمل أمام الشباب حتى من خريجي كليات القمة كالهندسة والطب البشري والاقتصاد والعلوم السياسية، فلا تغلقوا الأبواب أمام الشباب بمد سن المعاش، وإذا كانت بعض الدول تمد سن المعاش، فلأنها تعاني ندرة الشباب، وليس كثرتهم كما هي حال مصر.