رئيس التحرير
عصام كامل

الإيمانُ الضرير "2"


انتهى الشيخ "محمد الغزالىُّ" في سياق حديثه عن "التدين الضرير" إلى نتيجةٍ حتميةٍ هي: "كلُّ تدينٍ يُجافى العقلَ، ويخاصمُ الفكرَ، ويرفضُ عقدَ صُلحٍ شريفٍ مع الحياة، هو تدينٌ فقدَ كلَّ صلاحيته للبقاء، وأهلُ الأرضِ، لا أظنُّ أنهم يَحنِّون إليه بعد ما منحوا نِعمة الخلاص منه، فالتدينُ الحقيقىُّ هو إيمانٌ بالله، وشعورٌ بالخلافة عنه في الأرض".


وينعى "الغزالىُّ" على عقول بعض المُتدينين أنها "مشحونة بقضايا أثارها طولُ الفراغ والتَّرفُ العقلىُّ"، مُشددًا على أن "كثيرًا من أهل الدين أساءُوا إلى ربهم، وإلى أنفسِهم يومَ بخسوا العقلَ قيمته، وافتعلوا العراقيلَ أمام حركته"!!

"الغزالىُّ"، الذي رحلَ عنا قبلَ نحو ربع قرن من الزمان، يستنهضُ تلكَ العقولَ الخاملة المُتخاذلة المُتكاسلة، من خمولها وتخاذلها وكسلها، حتى تكونَ عقولًا واعية مبتكرة، قادرة على التفكير وليس التقليد، الابتكار وليس اتباع نهج: "هذا ما وجدنا عليها آباءَنا الأولين".

ولكن ما معنى هذا الكلام وما مناسبته، ولماذا أطرحُه الآنَ، وهل يتصادمُ مع طرحناه خلالَ الأسابيع الماضية بشأن من يُسمون أنفسَهم "تنويريين"، وما هم بـ "تنويريين"، ممن يناطحون الإسلامَ غمزًا ولمزًا، ويتكسبون من وراء ذلك كسبًا ماديًا كبيرًا، وما طالنا منهم ومن أتباعهم من أذىً كثيرٍ وادعاءاتٍ واهيةٍ؟

الإجابة باختصارٍ شديدٍ.. هي أنَّ الإسلامَ لم يعدمْ مِن بين أبنائه المُخلصينَ وعلمائه الثقاتِ، مَنْ يحملُ راية تجديده، ومن يستنهضُ بعضَ المسلمين من كسَل عقولهم، ولكن شتانِ الفارقُ بين الفريقين، لا يستويانِ مثلًا.

فالفريقُ الأولُ لا يبحثُ تجديدًا ولا تنويرًا، ولا يهمُّه أمرُ الدين من قريب أو بعيد، ولكنه وجد في هذا الأمر سبيلًا يسيرًا للتربح والشهرة، يتكلمُ عن جهلٍ، وسوءِ نيةٍ، يتربصُ بكلِّ شيء، يُحرِّفُ الكلمَ عن مواضعه، مثلُ هؤلاءِ هم آفة كلِّ عصر، ووباءُ كلِّ زمن، هم عبءٌ ثقيلٌ على الدين وعلى المجتمع وعلى الإنسانية بشكل عام، تشهد على ذلك كتاباتُهم وأفكارُهم التي يتوارثونها جيلًا وراء جيل، ويرددونها دونَ تجديدٍ أو تجويدٍ.

أما الفريقُ الثانى، الذي ينتمى إليه "الغزالىُّ" وغيرُه من المُجددين الثِّقات، وما أغزرَهم في كلِّ عصر وزمن، حتى وإنْ تجاهلتهم الأضواءُ، فهو يتكلمُ عن بصيرةٍ وعلمٍ، مهمومٌ بأمر الدين، صادقُ النية، سليمُ الفؤاد، لا يتكسبُ من وراء ذلك، ولا يغازل عدوًا، ولا يتصنع بطولة، ولا يُخرجُ لسانه للناس، ولا يكيدُ لهم كيدَ النساءِ والنائحاتِ المُستأجرات، كما يفعلُ التنويريونَ منهم والتنويرياتُ من الذين يُحبون أنَ تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.

إنَّ ما أنتجه "الغزالىُّ" في هذا السياق، ومَن سبقوه بإحسانٍ، ومن عاصروه ومن جاءوا بعده من أهل العلم والإيمان، لا يجبُ تجاهله والتغافلُ عنه، بل يجبُ البناءُ عليه، واتخاذه مددًا وعونًا لإصلاح أمر الدين والدنيا معًا، وعدم الانسياق وراءَ صغار العقول والنفوس والقلوب والفكر، من الذين في كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلونَ، ومن ينطبقُ عليهم قوله تعالى: "إنَّ اللهَ لا يُصلحُ عمل المُفسدينَ".. فما أحوجَ الإسلامَ إلى أنْ يكونَ إيمانُ أتباعه إيمانًا بصيرًا، لا ضريرًا!

وأخيرًا.. إذا لم يؤمنْ المسلمون بأنهم أمامَ مِحنةٍ عقليةٍ وفكريةٍ وتاريخيةٍ حقيقيةٍ وطاحنةٍ، لا يجبُ التغافلُ عنها، والتعاملُ معها وفقَ ما يقول "الغزالى" وما ذكره المُجددون في الإسلام، في هذا السياق، أما إذا واصلوا تخاذلهم واستسلامهم فلا يلوموا إلا أنفسَهم، وليعلموا أنهم بذلك يمنحون الفرصة لغربان العلمانية، وكارهى الإسلام بالسليقة، الفرصة تلوَ الفرصة، للتواجد والبقاء والاستمرار في ترويج أباطيلهم وأكاذيبهم وتخاريفهم.

تجديدُ الإسلام من الداخل يقطع ألسنة هؤلاء الصغار، ويجبرهم على وضع أقلامهم والاختباء في جحورهم صاغرين، وينهى زمن الإيمان الضرير.. "إنها لا تعمَى الأبصارُ، ولكنْ تَعمَى القلوبُ التي في الصِّدور"..
الجريدة الرسمية