أمي كاذبة
1
حين كنت أحبو، خيل لي أن العالم بلا حدود، فقد كان حضن أمي متسعًا بشكل يجعلني في أكثر حالاتي اكتمالًا نقطة في محيط لا تهدأ أمواجه، وكنت أسائل نفسي: "إذا كان هذا حضن أمي فكم يبلغ اتساع العالم كله؟!"، لكنها حين رحلت شعرت بأن أحدهم يدفعني إلى العالم دفعًا، كمن يلقي كسرة خشب إلى محرقة صغيرة..
في هذه الأثناء لم أكن مكترثًا لألسنة النار التي تتراقص على جثتي الحية، فحين تتعرى الحقيقة من كل ثوب أمامك للمرة الأولى، تتوقف كل حواسك - رغم صلاحيتها للحياة - عن العمل، وتقف مندهشًا، وأنت تشهد ذرات الهواء محملة برماد الحقائق أو لنقل ما كنت تظنها حقائق.. والآن أسأل: هل كانت أمي كاذبة، أم أن إدراكنا للحقيقة معيب؟! فربما كان حضن أمي هو ما يسع العالم، وليس العكس.. والحقيقة الآن هكذا: لقد كان العالم جزءًا من حضن أمي..
2
منذ ماتت أمي لم يرن هاتفي بصدق
كل المكالمة الفائتة إنذارات كاذبة
كل المكالمات المستلمة وهم
كل الرسائل فارغة
3
أمي، وصلت توًا للعالم الذي أرسلتني إليه، والآن أقول لك دون أدنى شك إنه رغم السهول والأنهار والجبال والهضاب والمباني والأبراج والشوارع والسيارات والطائرات والصحاري والسماوات والبحار والمحيطات والناس والحيوانات والجسور، فإن رحمك أوسع من هذا العالم، لكنني حين ذهبت لمحطة القطارات، قال لي الموظف من خلف القضبان: ليس لدينا قطارات للعودة، كل الخطوط هنا «one way».
4
حين أستقل الحافلة أفتقد أمي
الآن يجب عليَّ أن:
أدفع ثمن التذكرة
أراقب الطريق حتى لا تفوتني المحطة
أتجنب أرجل الركاب التي تسحق قدمي
أسد أذني كي لا أخسر حاسة السمع
أنظر من النافذة لأحفظ الخريطة
أتجنب نظرات الناس حولي
أحترس من النشالين واللصوص
بينما حين كانت أمي هنا، كنت أكتفي بأن أزرع وجهي في حضنها وأغفو، فتنطوي المسافة في طرفة عين.
5
وحدها أمي التي لم تخيفني في هذا العالم، حتى عندما كانت تحاول إيهامي بأنها مخيفة، وهي تلاعبني صغيرًا كنت أفر منها إلى حضنها، لم ترعبني أبدًا ملامحها المصطنعة، وهي تحاكي العفاريت والأشباح، ولم يزدني صوتها، وهي تقلد الوحوش الضارية سوى مزيدًا من التعلق بها.. كان بصري ينفذ إلى داخلها متجاوزًا الملامح والصوت ليستقر في عمق حضنها.. كبرت يا أمي وشاب شعري، لكن نظرتك أنت مازالت تنفذ إلى عمق حضني أنا فأرتد طفلًا صغيرًا إن حاولت أمه إيهامه بأنها مخيفة سارع إلى حضنها.. أمي بصمة الله على الأرض.
6
سألت أمي عن الرزق، قالت: تجده في المنح والمنع..
7
تقول أمي إنها حين ولدتني لم تسارع بتنظيف جلدي من الدم، بل أخرجت قلبي فغسلته بدموع عينيها الطاهرة ونفخت فيه من روحها، ثم أودعته صدري.
8
من لحظة ميلادك حتى تصير شيخًا لن تجد رداء يناسب جسدك على تغيير قياساته وشكله مثل حضن أمك، هو ملائم تمامًا، لا ضيق ولا واسع، يظهرك بهيًّا دومًا، ويسترك مهما كانت عيوبك.. حضن الأم حصن، ودونه العراء..