شيوخ الأزهر العظام.. قادة الثورات ( 1 )
تاريخ الأزهر الشريف، لم يقتصر على تدريس الدين الحنيف، وتنقية التراث، وتخريج أئمة العالم الإسلامي، بل تذخر صفحات هذا التاريخ العظيم بالعديد من المحطات التي صار فيها طلاب الجامع ومشايخه رموزًا ومنارات وقادة للثورات والحركات التحررية، ورفض الضيم، وإزالة المظالم، وتصدُّر جموع الشعب للخروج على تجاوزات الحكام، ونير المستعمرين.
يذكر المؤرخون أنه "لم يكن يحدث اضطراب في مصر إلا ويخرج علماء الأزهر صائلين وجائلين جولة خطرة جدًّا"، دلالة على بأسهم ومنزلتهم.
وكانت المظاهرة تبدأ بصعود الثائرين على مآذن الجامع الأزهر الشريف، يدقون الطبول، وتعلو أصواتهم هاتفة بسقوط الظلم، وداعية التجار إلى غلق حوانيتهم، وكانت الدراسة تتعطل؛ مشاركة من العلماء والطلبة للجماهير في مشاعرهم، ثم يخرج الموكب الصاخب يتقدمه شيخ الجامع وعلماؤه ومجاوروه، ويتجهون إلى الحاكم الظالم، ويطلبون منه رفع المظالم عن الشعب، ولا يسع هذا الحاكم إلا أن ينزل على رغبتهم.
ففي ذي الحجة 1209 هـ/ يوليو 1795 م، تزعَّم علماء الجامع الانتفاضة الشعبية التي حدثت في القاهرة، ردًّا على المظالم التي تعرض لها الشعب على أيدي المماليك، فما كان من "إبراهيم" بك إلا أن أرسل إلى علماء الجامع يسترضيهم فتم الصلح الذي حضره كل من "مراد" بك والوالي العثماني "صالح باشا القيصرلي".
وكان للشيخ "عبد الله الشرقاوي" دور بارز في رفع المظالم عن عامة الشعب المصري، خاصة من قبل "محمد بك الألفي"، الذي أعلن الإضراب العام؛ مما اضطر أمراء المماليك إلى رفع المظالم، وتوقيع عهد أو حجة وقع عليها أمراء المماليك ومنهم "مراد" بك و"إبراهيم" بك.
وقد كان لعلماء الجامع، خاصة الشيخين "مصطفى الصاوي" و"سليمان الفيومي"، دور في التوسط الذي حدث بين "نابليون بونابرت" وأهل القاهرة لتأمين المدينة قبل دخول الفرنسيين.
كما كان لعلماء الأزهر دور كبير في دعم حكم "محمد علي"، وتزعم الشيخ "عبد الله الشرقاوي" الحركة الشعبية لخلع "محمد خورشيد" باشا، وتنصيب "محمد علي" مكانه في صفر 1220ه/ مايو 1805م.
وبرز دور العلماء في التصدي لحملة "فريزر" الإنجليزية على مصر سنة 1222ه/ 1807م، واستطاعوا شحذ همم الشعب المصرى للجهاد، وتقديم المعونة لقوات "محمد علي" لصد الإنجليز في مدينة رشيد.
وكان لبعضهم دور كبير في دعم "أحمد عرابي" في ثورته ومقاومته للإنجليز الذين استعان بهم الخديو لتثبيته في الحكم، ومنهم الشيخ "شمس الدين محمد الإمبابي"، شيخ الجامع، والشيخ "حسن العدوي"، والشيخ "محمد عبده"، الذين اعتبروا الخديو "محمد توفيق" مارقًا عن الدين، وأجازوا عصيان أوامره، ودعوا إلى التطوع في الدفاع عن مصر، وتقديم التبرعات له.
ومع قيام ثورة 1919م/ 1338هـ، تقدم علماء الأزهر وطلابه جموع الشعب، وأصبح الأزهر مركز الثورة، حيث تلقى فيه الخطب المحرضة النارية ليلًا ونهارًا، حسبما ذكرت مذكرة وكيل وزارة الخارجية البريطانية حول أحداث الثورة، ولم يتورع جنود الاحتلال البريطاني عن انتهاك حرمة الجامع الأزهر، كما فعل "نابليون" من قبل؛ ففي صباح يوم 18 ربيع الأول 1338ه/ 11 من ديسمبر 1919م، تحركت مظاهرة من الجامع الأزهر غير أن الجنود الإنجليز طاردوا المتظاهرين حتى بوابات الجامع..
فاحتمى الثوار بالجامع فقام الجنود الإنجليز باقتحام الجامع بنعالهم وعصيهم، منتهكين حرمة الأزهر، واعتدوا على إدارة الجامع والموظفين، وحاولوا كسر الباب الموصل إلى القاعة المخصصة لشيخ الجامع الأزهر، ثم صعدوا إلى الدور الأعلى من الرواق العباسي، وكسروا باب غرفة رئيس الحسابات..
وأرسل مشايخ وعلماء الجامع رسالة شديدة اللهجة إلى السلطان "أحمد فؤاد الأول"، وإلى "يوسف وهبة" باشا رئيس مجلس الوزراء آنذاك، والجنرال اللنبي المندوب السامي البريطاني، الذي سارع إلى تقديم اعتذار رسمي لشيخ الجامع الأزهر جاء فيه: "لكم أن تثقوا بأنه لم يُقصد البتة انتهاك حرمة الأزهر، ولا التعدي على كرامة فضيلتكم، أو السادة العلماء أو الطلاب المسالمين".