موت متكرر
يراودني حلم منذ أربعين عاما، حلم واحد يتكرر كل ليلة كصاحب دَين لا يتوقف عن مطاردة المدين حتى في مرضه. يحاصرني الحلم المتكرر بلا ملل منه، وبلا قدرة مني على تجنبه، حتى إنني في تلك الليالي التي سهرت فيها عمدا، لم أتمكن من الإفلات منه، إذ كان الحلم يتجسد لي حيا كشريط سينما تتدفق مشاهده مثل شريان مقطوع ينزف بلا توقف.
وفي الحلم، آراني على شفا حفرة عميقة، أو على حافة سطح ناطحة سحاب، وأحيانا أرى نفسي معلقا في ورقة شجرة تلامس السحاب..
في كل هذه المواقف أكون على وشك السقوط، فهناك من يدفعني ليختل توازني، أو تزل قدماي، أو تكل قبضتي الممسكة بورقة الشجرة، لأهوي إلى القاع السحيق..
طيلة أربعين عاما وأنا أحلم الحلم نفسه، لكنني في كل مرة كنت أوقظ نفسي كي لا أسقط، فأنا مصاب بفوبيا الأماكن المرتفعة.. وحين أقول إنني أوقظ نفسي فأنا أعني ذلك تماما، اذ أنني في كل حلم أجدني مزدوجا، واحدا على وشك السقوط، وآخر يتدخل في اللحظة الحاسمة، ليوقف الحلم ويؤجل النهاية..
ربما يكون الحلم واحدا، وربما أيضا تكون النهاية واحدة، إلا أنها الطريقة.. الطريقة وحدها التي تتغير وتتبدل، فمرة مثلا يكون بانتظاري في القاع كلاب مفترسة جائعة تتلهف لقطعة لحم، وفي مرة أخرى أفاعي تتلوى من الجوع كراقصات في استعراض بوليوودي، وفي نسخة ثالثة تكون النهاية بارتطامي بصخور مدببة حتما سينتهي الأمر عندها حين تمزق جسدي لتتطاير الأشلاء، كذرات الرماد، فأتلاشى وكأنني لم أكن.
آلاف من المرات تكرر فيها الحلم بتفاصيله، ورغم أنني في كل مرة كنت اتجنب النهاية، فأصحو قبل أن أسقط، إلا أنني مت بعدد المرات التي حلمت بها، فما يعتريني من رعب وأنا على وشك السقوط لهو الموت بعينه، لكنه موت مُعالج بشكل ما ليتم بأبطأ سرعة ممكنة، حتى يتسنى لمن يموت أن يكون شاهدا على موته بالتفصيل.. تماما كمشهد يتم عرضه صورة صورة!!
معذب أنا لأربعين سنة.. خوف.. رعب.. آلاف من الموتات المتكررة بلا رحمة.
ظل الأمر هكذا حتى سئمت.. نعم سئمت الموت، فقررت أنا أموت! فالموت لمرة واحدة أرحم من الموت المتكرر، لهذا وفي الليلة الماضية، قررت ألا أتدخل في الحلم، لن أوقظ نفسي هذه المرة، سأتركني أواجه مصيري، سأترك نفسي للسقوط لأنهي القصة.
حين أموت سأقابل ربي لأسأله عن السر، لا بد وأن الموتى تكشف لهم خزائن الأسرار..
هكذا، حين انسحبت الشمس وحل القمر مكانها، ابتلعت حبة من الدواء المنوم الذي وصفه لي الطبيب، قبل عشرين عاما لكني لم أتعاطاه يوما، ثم أغمضت عيني وفردت ذراعاي بامتداد كتفي كطائر أسلم نفسه للريح، ثم نمت في سكون.
في هذه الليلة، ككل ليلة، بدأ الحلم.. فيلم شاهدته آلاف المرات، لكنني هذه المرة سأكمله لأشاهد النهاية..
ها أنا اقف على حافة عالية، ومن أسفل أشاهد هوة سحيقة ليس لها آخر.. انتظر.. وانتظر.. وانتظر، لكن أحدا لا يدفعني، حتى قدماي راسختان، لكن أين الخوف؟ أنا لا أشعر بالخوف.. أحين نختار النهاية ينسحب الخوف!
ربما ليس هناك ما يدفعني للسقوط، لكنني عازم على الاستمرار حتى النهاية، لهذا فأنا – بكامل إرادتي - أدفع جسدي نحو الهوة فاردا ذراعاي كطائر، فإذا كان السقوط حتما، فلتسقط كطائر عنيد لا منكسر..
هكذا أنا الآن مندفع بقوة نحو الأسفل، كل ما حولي مظلم ومخيف، لكنني لست خائفا، فمن يختار لا يخاف..
لكن، ماذا يحدث؟ أنا لا أسقط.. أنا أطير.. نعم أطير.. ذراعاي جناحان، وها هي السماء تظهر في الأسفل.. كل قوانين الفيزياء تتحطم أمامي وتتناثر كشظايا مرآة أصابتها دانة مدفع.. أنا أطير أو ربما أسقط لأعلى.. جسدي أخف من ورقة شجرة تحملها الريح.. النور يولد أمامي من رحم الظلام..
أربعون عاما أخشى السقوط لأعلى، كنت فيها أسيرا للخوف.. حلما خلته قفصا، بينما هو جناحان لطائر حر.