رجعولي الماضي بنعيمه وحلاوته وغلاوته!
كانت طفولتنا في الستينيات في المنصورة الساحرة مسلسلًا لا ينتهى من السعادة في مدينة لم ولن أرى أجمل منها في العالم، فقد كانت كل عالمي الصغير، الذي فتحت عيناي عليه ودنيايا إليه. فذكرياتي الخالدة في طرقاتها عانقت بعبيرها نفسي وأسكرت عقلي.
فقد كان خاطرنا البَضّ يسجل كل ما يمر علينا كخبرات جديدة في حياتنا، وكأنه يُحَمَّلنا الأمانة ويشدد علينا اليمين أن نوصلها لأبنائنا وأحفادنا كطقوس وعادات لا يجب أن تنقطع لشعب جميل بموروث خصب من التقاليد العريقة.. ولعلني أتذكرها الآن وأُذَكَّر بها جيلي وأعيدها إلى الضوء مرة أخرى بالأبيض والأسود أمام أجيال لم تراها إلا صورة مشوهة في الأفلام والمسلسلات.
كان العيد الصغير ونحن أطفال من أجمل أيامنا على الإطلاق، وكان يسبقه تحضير كبير منذ منتصف الشهر تقريبًا، فيبدأ الاستعداد بشراء ملابس العيد الجديدة.. والحقيقة أن كل ما كان يُشترى وقتها هو الملابس الداخلية من القطن المصري والشرابات من الصناعة المصرية، وما دون ذلك كان تفصيلًا..
فزيارة إلى ترزي القمصان وترزي البنطلونات لأخذ المقاسات وإعطائه أقمشة المحلة التي إشتراها والدي لتوه من عمر أفندي أو صيدناوى أو محل العقاد للأقمشة الصوفية في السكة الجديدة، مع تذكيره بضرورة الانتهاء منها قبل العيد بأيام من طقوس العيد السنوية.
وكان ترزية البنطلونات والبدل نجومًا في المنصورة كالزينى والقصبي والعطار والمحظوظ من يجد موعدًا لديهم فالحجز عندهم لشهور!
أما ترزينا فكان رجلًا بسيطًا وكبيرًا في الثمانينات من عمره إسمه عّم حسين بالحسنية، لا يمكن أن تميز محله فكان بلا يافطة وكان يحتفظ بنوته ورقية صغيرة متعددة الصفحات، وملتفة الأطراف عمرها من عمر جدي! ويسجل عم حسين بيد مرتعشة مقاساتنا في صفحة أولاد الأستاذ حمدي!
وكان أقصى ما أتمناه وقتها أن يمد الله في عمر عّم حسين لينتهى من بنطلوني، فقد كان ترزي والدي المفضل منذ الصغر. بعدها نمر على الجزمجي الشهير أمام مسجد النجار بسوق الخواجات لأخد مقاس القدم لتفصيل الحذاء أبو بوز وتحديد ميعاد البروفة بعد نزعها من القالب الخشبي. فكانت الجزمة التفصيل من الجلد المضمون والفاخر أفضل بكثير من جزمة أبوطوق الجاهزة والغالية بدون داعي أو جزمة زلط ذات النعل الكريب الفالصو.
وكانت الأمهات في البيوت في مؤتمر يومي لنقش الكحك والبسكويت والغريبة والبيتي فور، وكان عادة ما يتم جماعة وتشارك فيه الأسر المسيحية جارتها المسلمة. نحمل بعدها الصيجان السوداء إلى فرن الشربيني في آخر شارع بسيم لنقف في طابور طويل فكل أسرة قد نقشت على أقل تقدير عشرة صيجان كاملة!
وكان التباري بين الأسر في إتقان حسو الكحك من العجمية، والتي تفاوتت في كفاءة صانعتها بين الملبن الطري والحجر الصلد! وفِي طريق العودة نسمع شريفة فاضل تغني "ولَّا لسة بدري والله يا شهر الصيام" فنعرف أن العيد قد اقترب، وحين تغني أم كلثوم "ياليلة العيد أنستينا وجدِّتي الأمل فينا" نعرف أن ساعات العد التنازلي قد بدأت، فنتمِّم على كل شيء للتأكد أنه جاهز لليوم الكبير الذي ننتظره جميعا بشغف! وعادة ما تكون السهرة عند الترزي الذي لم ينتهى كالعادة من التفصيل كما وعد!
كان للعيد طقوسًا لا أنساها تبدأ بالاستيقاظ المبكر للاستحمام ولبس الملابس الجديدة من الرأس حتى إخمص القدمين، وقبض العيدية من أوراق البنكنوت الورق الجديدة من الربع جنيه وعشرات الصاغ التي لن تراها الآن الا في المتحف. وبعد صلاة العيد يبدأ التسكع مع أصدقاء الطفولة على شارع البحر، لنسمع أغنية ام كلثوم الجديدة "أنت عمري" والتي أذيعت فقط منذ أسابيع ولكن هذه المرة بميكرفون سينما عدن العالي..
وربما ندخل السينما صالة بثلاثة قروش ونصف لنشاهد فيلم فريد شوقي الجديد "بطل للنهاية" أو فيلم عبد الحليم حافظ الحزين "الخطايا" نخرج بعدها لنشرب المشروب الأحمر أو البرتقالي أو الأصفر ذو الماصة الزجاجية الملتوية من أمام كبري طلخا، وهو عبارة عن ماء بسكر ولون، ولكن متعة ارتفاعه في الماصة المتعرجة يستاهل القرش الصاغ.. أو نقف لنشرب عصير القصب المثلج من المحل الشهير أمام كوبري طلخا، أو أول العباسي، ثم نعود إلى حديقة شجرة الدر الأنيقة التي كانت تحوي شعب المنصورة بأكمله، لنستمع إلى الفرقة الموسيقية العسكرية التي تعزف في البرجولة الخشبية المذركشة.
ولن ينتهي اليوم قبل أن نركب مراجيح عَمّ حسن الخشبية بجوار مدرسة ابن لقمان، وبقرش صاغ واحد، ثم نعود للتمشية بعد الغذاء على شارع البحر لأكل السميط مع الدقة والذرة المشوي والترمس مع البليلة والحمص من البائع الشهير بجوار شركة التأمين الأهلية.
وكان لنا عادة سيئة في العيد وهى السير على قضيب القطار بعد انتهاء الكوبري ولمسافة بعيدة! كنا نريد لليوم ألا ينتهي أبدًا فسعادة قلوبنا الصغيرة بالعيد كانت لا تضاهى في زمن الأبيض والأسود الجميل.
كان للعيد في حبيبتي المنصورة بهجة حقيقية ورونقًا لا ينسي. ذكريات رائعة لزمن جميل لن يعود ثانية ولكن سيبقى رحيقة يداعب الذاكرة كل عيد. كل عيد وأنتم بخير ولا تنسوا أكل الكحك وقللوا من السكر عليه!