رئيس التحرير
عصام كامل

القاهر


كانت العيون تتجه صوب الزعيم، وهو يضع نظارة سوداء على عينيه، متأملا في سماء تعلن استقبالها لواحد جديد من صنع الإرادة المصرية.. "القاهر" صاروخ مداه ٦٠٠ كيلومتر قادر وحده على زلزلة تل أبيب وكل صناع الوهم الأسطوري للكيان الذي لا يهزم.


قادة يحيطون بالزعيم "جمال عبد الناصر" وكاميرات تلتقط تتابعا متتاليا لعملاق مصري يستطيع وحده أن يهضم صلف الأعداء.. قادر حسب وصفه الذي صاحبه صوت مذيع يشخص قدراته على نحو معجز والجماهير في البيوت تتابع بشغف تلك اللحظة النادرة في تاريخ العرب.

صحف الصباح تزف لمن لم يتابع معجزة الانطلاق بالأمس بعناوين عريضة وصور مبهرة والناس على المقاهى وفي الشوارع والحواري والأزقة.. في القرى والنجوع.. في المدن والريف.. في الصعيد البعيد وعلى شواطئ بحور حالمة.. الكل يستنشق رحيق النصر القادم عبر صاروخ مزلزل سيعيد الأرض ويحمي العرض.

على الطرف الآخر كان "عبد الحكيم عامر" وحده ومعه قلة على رأسهم الزعيم خالد الذكر "جمال عبد الناصر" يعرفون الحقيقة.. الصاروخ الذي انطلق تاه وضاع وفقد بعيد كيلومترات قليلة وفشلت التجربة تماما، فلم يكن الصاروخ قاهرا ولم يكن إلا راقدا في بحيرة من الرمال التي استقبلت حطامه وكأنه جثة لحيوان نافق.. نعم "نفق الصاروخ القاهر".

كان من المفترض أن يناقش مجلس الأمة هذا الملف، غير أن شعار المرحلة أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. ظلت أخبار "القاهر" مادة خصبة يتحدث عنها خبراء ووزراء وقادة والناس بالطبع لا تتلقى غير ما تلقيه أجهزة إعلام الزعيم على مسامعهم وتصب في آذانهم سيلا من الوهم اللذيذ!!

والأيام تأكلها أيام، والجماهير العطشى لأي انتصار تستهلك ما تلقيه طواحين الإعلام على موائدهم دون نقاش أو جدال، ولمَ يجادلون قادة سلمهوهم ما هو أغلى من مسئوليات جسام.. سلموهم مفاتيح البلد وخزائنه وموارده التي كانت حكايات تروى في التاريخ التليد؟

استفاق الناس بعد أيام من نكسة ٦٧ واتضح لهم أن "القاهر" لم يقهر أحدا، إلا البسطاء الذين صدقوا، وأن "الظافر" لم يظفر إلا بهزيمة نكراء لا تزال تلقى بهمومها وآثارها حتى يومنا هذا.. استفاق الناس على الوهم القابع في كلمة السلطان وخطابات السلطان وأكاذيب زمن الوهم.

مضت الأيام وكأنها دهور على الزعيم الجديد الذي كان يعرف الداء ويعلم علم اليقين أن جيشنا راح ضحية الكذب المروع وبدأ في نسج عصر جديد.. عصر يبني آماله من هموم الناس وثقة الجماهير ليقوم بأكبر عملية بناء لجيش يستحق أن يعلن عن نفسه وقدراته ويفرض إرادته على الجميع مهما كانت التحديات.

ابتنى "السادات" نظريته في رد الاعتبار والكرامة مراهنًا على إرادة الجندي الذي ظلمه عصر الأكاذيب.. وتأتى لحظة التاريخ المبهرة في عمر الوطن الجريح لتنفيذ أكبر زلزال يهدد عرش الأمبراطوريات الكبرى التي اتفقت جميعها علينا وضدنا وضد إرادتنا.

جاء العاشر من رمضان وكل تقارير القادة وكافة المعلومات الواردة تؤكد تفوق العدو بمراحل.. إلا "السادات" الذي كان يثق في إرادة أبنائه وقدرتهم على سحق الصعاب، بدون "القاهر" قهرناهم، وبدون "الظافر" ظفرنا بنصر عزيز شهدت له الدنيا.. كل الدنيا، وعدنا نتكلم صدقا ونتحدث صدقا وننتصر صدقا.. انتصرنا على كذبة كبرى كنا قد صنعناها في زمن الضباب وعصر العتمة.

في النور تستطيع أن ترى كل شيء ومهما كانت الأشياء دقيقة أو صعبة فإن النور وحده هو القادر على هزيمة الادعاء والكذب وكل صنوف البطولات والإنجازات الوهمية.

في عصور الصوت الواحد تختفى الحقائق وتتوطن الأوهام عقول الناس، يصبح الخروج صعبا ومرهقا ومكلفا.. كل تجارب الماضي أثبتت لنا أننا انتصرنا في ٧٣ بتفوق الإرادة والتعامل مع الواقع بعيون وطنية خالصة أدركت أن المعارك لا تدار بالخطب الحماسية، ولا بصوت واحد يسوق الناس إلى حيث يريد.. هزم "عبد الناصر" لأنه رسخ للصوت الواحد، وانتصرت مصر لأنها آمنت بالعلم والعمل والإرادة الوطنية الخالصة.
الجريدة الرسمية