"شهر رمضان" في شبرا.. وكارثة أتيليه القاهرة!

كل عام ومصر والمصريون والإنسانية بخير، بمناسبة الأعياد والأيام المبهجة بقدوم شهر رمضان المبارك، وحالة الأعياد التي تعيشها مصر، هي حالة تتفرد بها على العالم، فمثلا عيد الربيع أو عيد شم النسيم هو عيد مصري 100%، يحتفل به المصريون، والذي يرجع الاحتفال به إلى الفراعنة، "سبت النور" هو عيد مصري تماما تكتحل البنات بالكحل، بعيدا عن كونها مسيحية أو مسلمة..

وهذا تفرد لنا على العالم، بل إن شهر رمضان هو حالة مصرية خالصة، مَن سافر إلى لخارج في دولة إسلامية لن يرى أو يشعر بما يراه ويحياه في مصر، والصورة التي لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي وكتبتها مرارًا، صورة رأيتها في شوارع وحواري "شبرا مصر"، وكنت طفلًا دون الثامنة من عمري، كنت أرى وقد تزينت كل الشوارع بفوانيس وصلبان كبيرة الحجم ومساجد تضيء ليلا، ومن كثرتها تتشابك فوق الروؤس..

شوارع "جزيرة بدران" و"أحمد باشا كمال" و"ابن الرشيد"، و"إسكندر حنا" و"حارة علاء الدين" و"حارة مراد قطب" و"حكر عزت" و"سوق روض الفرج"، كنا أطفالا لا نعرف فروقا بيننا، ولم يشغلنا أن نعرف، والرائع أنك تجد هذه الزينة معلقة بلا ترتيب، الصلبان على بلكونة مسلم، والمساجد والفوانيس على شبابيك مسيحي، لا فرق، حالة مستحيل أن تجدها في بلد آخر في هذا العالم، هذه الصورة التي رأيتها في طفولتي حية، يقظة، لا تنام ولا تستسلم لكل ألاعيب الباطل التي تحاول شق وحدة الإنسان المصري العنصر الواحد..

وهنا أتذكر صورة في مكتبي كان القس "إبراهيم عبد السيد" راجعَ كتابا له، فجلس على منضدة اجتماعات في غرفة مجاورة لمكتبي، وعندما ذهبت إليه لأراه وصل إلى أين؟ فإذا هو منخرط في المراجعة، وخلفه بمسافة لا تزيد عن عشرين سنتيمترا يصلي الصديق "خالد العناني"، رحم الله الاثنين، صورة لا تجدها إلا في مصر المباركة من السماء التي تحميها حتى من أبنائها العاقين!

الحديث عن مصر المتفردة يطول، والصور الرائعة المشرقة لا حدود لها، ولكن هذا لا يمنع أن نرى بعض الصور الغريبة، الصور النبيلة التي تحدثت عنها في ستينيات القرن الماضي، كلها بشكل تلقائي فطري من الناس الطيبين، وليس هناك تعليمات ولا توجيهات ولا حزب وطني ولا حتى اتحاد اشتراكي، كان الناس يتصرفون بالفطرة، بالحب، بالود، بعيدًا عن أي دور للدولة في ذلك الوقت، للأسف، هناك قضية كنت أود الحديث عنها في المقال كاملًا، إلا أن شهر رمضان فرض نفسه والحالة التي أعود فيها إلى صور الطفولة والشباب تطاردني ولا أملك إلا الكتابة عنها.

الموضوع خاص بـ"أتيليه القاهرة" الذي كان في وقت من الأوقات أهم موقع ثقافي في مصر، أتيليه القاهرة أسسه الفنان الكبير الراحل "محمد ناجي" في عام 1953، عندما تم تأجير المكان، من ورثة "ليندا كوهنيكا"، الذي يقع في شارع "كريم الدولة" في وسط البلد، رويدًا رويدًا لم يصبح "أتيليه القاهرة" قبلة الفنانين التشكيليين فقط، بل كل المثقفين المصريين والعرب بل والأجانب..

وأصبح "أتيليه القاهرة" الأهم في الحياة الثقافية المصرية، وأصبح، مثلًا، مَن يعرض أعماله فيه يحصل على صك الاعتراف بكونه فنانًا حقيقيًّا، الضيف الذي يتحدث فيه لا بد له من حيثية متميزة، وقد حدثت مؤامرات كثيرة عليه لتخريبه من الداخل تارة، ومن خارجه تارة أخرى، خاصة عندما تضيق الحكومات بصوت هؤلاء المثقفين..

المهم بعد 25 يناير ظهر فجأة الورثة عن طريق محاميهم يريدون إخلاء المبنى، وتضامنت معهم بشكل غريب وزارة التضامن، وانتهى الأمر إلى أن إدارة الأتيليه كسبت القضايا النهائية في هذه المعركة، ولكن الأمر لم ينته، فقد فوجئت إدارة الأتيليه بقضية أخرى من وزارة التضامن للقضاء تماما على هذا الكيان صاحب التاريخ الطويل في الحياة الثقافية.

سؤال بريء، لماذا تتحمس وزارة التضامن للقضاء على هذا الكيان الثقافي المهم، الذي يحمل عبق كبار فناني ومفكري مصر على مدى ما يقرب من السبعين عاما!؟

سؤال أكثر براءة.. هل لأن المكان هو ملك ورثة "كوهينكا"، وبالتالي فلليهود هدف آخر، وهو التخلص من هذا الموقع الذي لا يعترف حتى الآن بالصلح مع الكيان الصهيوني!؟

أعرف أن المسافة كبيرة بين الصورة الجميلة المفرحة والمشرفة في مصر التاريخ والحضارة في مصر عامة.. وشبرا خاصة، وبين تواطئ وزارة التضامن للقضاء على أحد أهم معاقل الثقافة المصرية، وكأنها تريد طمس تاريخنا، ولا أدري لصالح من!؟

كل عام، وأهلنا المصريون، بخير بمناسبة الأعياد المسيحية وقدوم شهر رمضان، وأذكر هنا كلمة قالها المخرج الكبير "علي بدرخان": إن شهر رمضان ينتظره المسيحي قبل المسلم لأننا كلنا مصريون!
وتحيا مصر.. تحيا مصر... تحيا مصر.