بتقبض كام؟
حينما تجد خطابا بريديا يخصك، مفتوحا في مدخل سكنك قبل أن تتسلمه من الأساس، وحينما يسألك أحدهم بإلحاح عن راتبك، كم تتقاضي؟ فيما يريد أحدهم أن يعرف في إصرار وبأدق التفاصيل لماذا لم تنجب حتى الآن، ويسعى أحدهم أن يعرف وفى فضول تفاصيل مشكلات أسرية عائلية شديدة الخصوصية، وحينما يجلس أحدهم بجوارك في وسائل المواصلات، متابعا ما تكتب ومن تحدث عبر هاتفك، أو مدققا في صورك وصور عائلتك الخاصة، أو مراقبا قائمة أرقامك، تدرك أن هناك مشكلة سلوكية، استشرت مثل الداء الخبيث في عقول وقلوب البعض ممثلة في الانتهاك الفاضح لخصوصية الآخرين.
شكت لى السيدة العجوز أنها وجدت خطابا بنكيا يخصها، مفتوحا في الصندوق البريدي الخاص بها في مدخل العقار الذي تقطن به، وذلك بعد أن عبث أحدهم في محتواه، وعرفت فيما بعد من جارتها الأخرى أنها رأت أحد الجيران، وهو يفتح خطابا في مدخل العمارة ويقرأه قبل أن يطويه، ويضعه مكانه، ولم تكن تدرى أنه يخص الجارة العجوز.
منشور متداول عبر «فيس بوك» يصور مجموعة من الناس يقفون حول إحدى ماكينات الصراف الآلى، وعلى عكس المفترض أن يُتبع بالوقوف في طابور وإعطاء مساحة خصوصية للمتعامل مع الماكينة، تجدهم يتجمعون حوله في شكل دائرة أسرية حميمية، عارضين مساعدة لم يطلبها، ضاغطين أزرار الماكينة نيابة عنه، بل قد يحددون له المبلغ الذي يسحبه، بعد أن اطلعوا جميعا على تفاصيل حسابه البنكى.
نفس الشيء حينما يباغتك سؤال: (بتقبض كام؟)، ليضعك في «خانة اليك»، فتنبرى مدافعا في إحراج بالغ، محاولا وقف هذا العبث في أمر لا يفيد غيرك في شيء، إلا قليلا من الثرثرة والتسالى على حساب خصوصيتك.
السؤال ذاته عندما يُسأل لعائد من شقاء وعناء الغربة، التي دفع ثمنها بعيدا عن أولاده وبيته، باستفسار أحمق: (حوشت كام؟).
في أحد أماكن العمل، شكت بعض العاملات به، من زميل لهن، يتعمد المرور وقت كل صلاة وسؤالهن: (صليتوا الفرض ولا لسه؟).
وتلك الزوجة الشابة التي سألت صديقتها في تدخل شديد عن أسباب عدم إنجابها طفلا ثالثا مثل باقى السيدات، حسب كلامها، وما الذي يعوقها، مع حثها على ضرورة إنجاب ثالث ورابع، كي تكون مثل الأخريات، مع أن الأمر برمته لا يخصها من الأساس.
وهذه الفتاة الناضجة التي انشغل أعمامها وأولادهم، وعماتها وخالاتها وأولاد وبنات خالاتها، بالتطوع للبحث عن عريس لها دون أن تطلب، مرشحين لها، ومحدثين عنها هذا وذاك، علما أنها أبلغتهم مرارا وتكرارا برفضها تلك الأساليب الممجوجة، التي وضعتها في إطار أشبه بجارية تعرض في سوق نخاسة.
التنظير ووضع أطر الحل وافتراضياته لأمر لا يمت للشخص بصلة، إلا مجرد حشر الأنف المتضخم، هو داء وانتهاك لخصوصية الآخرين في فجاجة بالغة، والتمادى في اللصوصية المعنوية، وتقمص أدوار الحكماء في إسداء النصيحة، غير المطلوبة، وتحفيز الآخرين على أمر لا يتحمل تبعاته وأضراره وعواقبه إلا صاحبه فقط.
يؤكد هذا أن بعضا منا في حاجة ماسة لتعديل هذا الخلل، بالتركيز والانشغال بالنفس وحسب، وكفى بها انشغالا، وترك أحوال الآخرين للآخرين، وعدم التفتيش في أسرار حياتهم، وترك الثرثرة بالأسرار، وإرواء شهوة الفضول.
لنربي أنفسنا وأولادنا، أن الفضول لا يجب أن يكون إلا فيما ينفع مثل العلم والمعرفة، وأن الالتزام بمشكلات النفس وإصلاح عيوبها وأحوالها، أولى من التقصي الخبيث لأحوال الغير، فحين نترك خصوصيات الآخرين ولا تدس أنوفنا بها، سنعلو ونرتقى وننتقل إلى مصاف البشر الأسوياء.