رئيس التحرير
عصام كامل

تركة "البشير"


أؤكد أن سيناريو ما حدث بالسودان يوم الخميس الماضي كان متوقعا، وأن الأيام القادمة سوف تحمل مزيدا من التطورات السياسية والاقتصادية غير السارة للشعب الشقيق، في ضوء النفق المظلم الذي أدخل فيه "البشير" ونظامه البلاد، ونوايا المجلس العسكري الذي لا أعتقد أنه سوف يسلم البلاد لحكومة مدنية في القريب العاجل.


فلا جدال أن الجيش السوداني لم يجد أمامه حلا سوى التدخل لإسقاط النظام، أمام ما وصلت إليه البلاد من تدهور، وتشبس "البشير" ونظامه بالسلطة، واستمرار الاحتجاجات الشعبية، أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولو على المدى البعيد.

إلا أن القريبين من الملف السوداني يدركون جيدا، أن "البشير" قد ترك لمن بعده "تركة ثقيلة ومهلهلة" لا خروج منها سوى بدعم اقتصادي دولي كبير وغير محدود، ينقذ البلاد من كارثة الانهيار، وأشك أن العسكريين في السودان يمتلكون من العلاقات والاتصالات الدولية ما يسمح لهم بالتواصل الدولي لتوفير مثل هذا الدعم.

وحتى يعي البعض حقيقة التركة الثقيلة التي تركها "نظام البشير" بسبب تلكئه منذ سنوات في تطبيق إصلاحات اقتصادية، فقد سجلت ميزانية الدولة عجزا قياسيا بسبب تكلفة دعم الوقود والخبز وغيرها من المنتجات، مما دفع الحكومة إلى توسيع المعروض النقدي، وبالتالي انخفاض قيمة العملة التي وصلت إلى 61 جنيها سودانيا في مقابل الدولار الأمريكي الواحد في البنوك الرسمية، إلى جانب ارتفاع معدل التضخم إلى 70%، ووصل حجم الدين الخارجي المستحق على البلاد لأكثر من 50 مليار دولار، في الوقت الذي زادت فيه معدلات الفقر، وتجمدت مرتبات موظفي الدولة عند معدلاتها منذ سنوات.

وظل النظام طوال السنوات الماضية يسير على ذات النهج، دون إحداث أدنى تنمية، يقدم دعما غير محدود لكل شيء، ويرحل الديون والكوارث عاما بعد عام، معتمدا على القروض والإعانات، دون استغلال لإمكانيات الدولة التي تمتلك من الثروات الطبيعية والأراضي الخصبة التي من الممكن أن تحول السودان إلى سلة غذاء لكل القارة الأفريقية.

لدرجة أنه قدم لتر البنزين للمواطن بسعر يعادل 10.6 سنتا، كما قدم دعما غير محدود للخبز، لدرجة أن الرغيف الذي تصل تكلفته إلى 1230 جنيهًا يباع بسعر جنيه سوداني واحد.

وقد انعكست تلك السياسة الاقتصادية الفاشلة بشكل مباشر على القطاع المصرفي، مما جعل البلاد تعاني نقصا كبيرا في الأوراق المالية، واضطر المواطنون للوقوف في طوابير طويلة بالساعات أمام البنوك وماكينات الصرف لسحب ودائعهم، والبحث عن استثمارات تدر عليهم دخلا بعد ارتفاع الأسعار، في ظل التزام البنوك باتباع قواعد «التمويل الإسلامي» التي تحظر الفائدة، والتي أدت إلى إحجام المواطنين عن إيداع أموالهم بالبنوك، وحدت من قدرة الحكومة على جمع الأموال محليا، واستغلالها في صورة «أذون الخزانة» وسندات تقليدية.

وقد اضطرت الأزمة الاقتصادية إلى لجوء النظام لصندوق النقد الدولي، الذي طلب السودان بتنفيذ سياسات اقتصادية مؤلمة لتصويب حالة الاقتصاد المتردي، وهو ما عجزت الحكومة عن الإقدام عليه.

في الوقت الذي وقفت فيه «أمريكا» بقوة أمام كل الطلبات التي تقدمت بها السودان لصندوق النقد، بعد إدراجها كدولة «راعية للإرهاب»، مشترطة امتثالها لسلسلة من المطالب «السياسية، والحقوقية، والأمنية» خاصة بعد أن جعل نظام "البشير" من البلاد محطة لتهريب السلاح، وعبور الإرهابيين إلى كل الدول المجاورة.

للأسف إن نظام البشير، ترك البلاد في نفق "اقتصادي" مظلم يصعب الخروج منه في القريب العاجل، إلى جانب ما ستشهدها البلاد من صراعات "سياسية" على السلطة بعد سقوط النظام، وصعود العسكريين إلى الحكم، وهما عاملين يرجحا أن تصل الأمور في السودان إلى ما هو أسوأ خلال الأيام القادمة.

وللسودان والسودانيين "الله" في ما هو قادم.
الجريدة الرسمية