انتصر الشعب وبدأ تطهير الجزائر
عمت الاحتفالات ليل أمس شوارع الجزائر، بعدما انتهى رسميا في العاشرة مساء عهد الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة"، مع إخطاره المجلس الدستوري باستقالته وإنهاء ولايته، بعد 20 عاما حكم فيها البلد، وكان ينوي الاستمرار لعهدة حكم خامسة، رغم مرضه وعدم تواصله مع الشعب منذ العام 2013، تولى خلالها شقيقه الأصغر ومستشاره "سعيد بوتفليقة" تسيير أمور الحكم.
لهذا بدأت احتجاجات الشارع في 22 فبراير الماضي رفضا لترشحه ورغبة في إنهاء النظام ككل، لتفشي الفساد في أركانه وهيمنة المحيطين بالرئيس وشقيقه والنخبة الحاكمة على ثروة البلد الغني بالنفط والغاز، وتراجع الخدمات ومستوى المعيشة وزيادة الهجرة غير الشرعية هربا من سوء الأحوال المعيشية.
صحيح أن "بوتفليقة" حقق الاستقرار في البلد وحقق النمو بعد "العشرية السوداء" وقضى على الجماعات المتطرفة، لكن بعد سنوات الحكم الأولى بدأ تفشي الفساد والظلم وتآكل أحلام الشعب لا سيما الشباب.
ركزت في المقالات الفائتة على ثنائية "الجيش والشعب"، وأن الأمل معقود عليها بعد انحياز رئيس أركان الجيش الفريق "قايد صالح" لمطالب الشارع، وأنه باعتباره مجاهدا قديما ضد الاحتلال الفرنسي، حتى استقلال الجزائر لن يترك الشعب قبل تحقيق مطالبه المشروعة.
تلميحات جنرال الجيش جاءت تدريجية دون أن يصطدم بمؤسسة الرئاسة احتراما لصداقة طويلة تجمعه بالرئيس، فضلا عن أن الرئيس "بوتفليقة" يحتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع وقايد صالح نائبه، لكن في ظل رفض بوتفليقة الاستقالة، دعا الجنرال قايد بشكل فاجأ الرئاسة إلى تفعيل مادة الدستور 102 وإعلان شغور الرئاسة، لعدم قدرة الرئيس "بوتفليقة" على مزاولة مهام الحكم نظرا لظروفه الصحية الدقيقة، وتولي رئيس البرلمان الرئاسة لمدة أقصاها 90 يوما يجرى خلالها انتخابات رئاسية تلبي طموح الشعب دون أن يترشح لها.
إصرار رئيس الأركان على تخلي "بوتفليقة" عن الرئاسة، أكد التباعد بين الجيش المنحاز للشعب وفريق الحكم، من هنا خرجت مظاهرات شعبية مؤيدة قرارات "قايد صالح"، بينما رفضت المعارضة جميع الحلول وكان لها أجندة أخرى. ووسط كل هذا لم يغفل جيش الجزائر تحركات السلطة والنخبة الحاكمة وأمر بمنع إقلاع وهبوط الطائرات الخاصة في جميع مطارات البلد، وأصدر قرارا بمنع سفر 140 رجل أعمال من المحيطين بالرئيس وشقيقه والمستفيدين من السلطة، وتشديد الأمن على جميع المنافذ الحدودية..
ونتيجة لذلك اعتقل رجل الأعمال "على حداد"، القريب من "بوتفليقة" وممول حملاته الانتخابية السابقة، وكان مغادرًا إلى تونس عبر الحدود البرية، وضبط معه مجموعة جوازات سفر جزائرية وأجنبیة بینها جوازان مزوران ورخصتا قيادة مزورتان تم استخراجهما من ولاية تیزي وزو الجزائرية، وسيحاكم بتهم فساد عدة فضلا عن ورود اسمه في ملفات فساد دولية.
لكن "حداد" رفض التعاون في التحقيق وتنكر لجنسيته الجزائرية مطالبا بمعاملته كبريطاني، لأن لديه جنسية إنجليزية وقال أنه لن يتحدث إلا في حضور السفير البريطاني!!.
اجراءات الجيش وصدامه مع الرئيس، قابلها أخرى مضادة من الدائرة المحيطة بالرئيس بإعلان تعيين حكومة جديدة برئاسة "نور الدين بدوي" احتفظ فيها "بوتفليقة" بحقيبة وزارة الدفاع، في خطوة رفضها الشعب عبر تظاهرات ليلية للمطالبة مجددا برحيل النظام.
وعلى الفور سرت شائعة عزل الفريق "قايد صالح" من رئاسة أركان الجيش ومنصبه نائبا لوزير الدفاع، ليصدر الجيش بيان نفي وأنه باق في منصبه ومنحاز تماما للشعب، ليتكرر الحديث عن إقالة رئيس الأركان صباح أمس مرة ثانية، بالتزامن مع تصريح من الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال، ذكر فيه أن "سعيد بوتفليقة" شقيق الرئيس ومستشاره طلب منه أن يتولى مهام البلاد خلال الفترة الانتقالية..
وإنه بداعي الشفافية وواجب احترام الحقيقة، استقبلت يوم 30 مارس الفريق المتقاعد "محمد مدين" الذي حمل لي اقتراحا لرئاسة هيئة تسيير المرحلة الانتقالية، وأكد أن الاقتراح تم بالاتفاق مع "سعيد بوتفليقة"، مستشار الرئيس، وقد عبرت له عن ثقتي الكاملة في ملايين المتظاهرين وكذا ضرورة عدم عرقلة مسيرة الشعب الذي استعاد السيطرة على مصيره".
هنا خرج صراع الجيش والرئاسة إلى العلن وأعلن الفريق "قايد صالح" عن اجتماع مع قيادات الجيش، أعقبه بيان الحسم، الذي وجه فيه إنذارا واضحا "لا مجال لتضييع الوقت وعلى الرئيس "بوتفليقة" التنحي فورا ويجب تطبيق الحل الدستوري، لأن الجيش مؤيد كليا لمطالب الشعب وسيحميه من عصابة تستحوذ على مقدرات البلاد، وطموحه الوحيد هو السهر والحفاظ على النهج الدستوري للدولة، وضمان أمن واستقرار البلاد".
ولم يمر على بيان رئيس الأركان أكثر من ساعة حتى تنحى "بوتفليقة"، وانتصر شعب الجزائر، لتبدأ مرحلة انتقالية فيها الكثير من التطهير ومحاكمة الفاسدين، خصوصا مع استعادة ملفات كثير من قضايا الفساد وتهريب الأموال والعملة الأجنبية للخارج، وحجز جوازات السفر الخاصة بكثير من رجال الأعمال، وأفراد عائلاتهم والمقرّبين منهم، وقد تمسّ التحقيق في استثماراتهم وودائعهم بالخارج، ويبقى أمر عائلة "بوتفليقة" في يد جنرال الجيش ورئيس الجزائر المقبل.