«صورته معلقة أمام متحف اللوفر».. رحلة «الخالدي» من لاجئ الى أفضل شيف في العالم
حينما كانت سوريا لا تزال بلد الحضارة والفن والجمال، كان هناك شاب ناجح يعمل طباخًا يُدعى محمد الخالدى، كان يعيش حياة مستقرة في دمشق كغيره من السوريين، وكان مُجدًا وعاشقًا لمهنته التي بدأ العمل بها منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره، فأصقل موهبته بالدراسة الأكاديمية وحصل على شهادات عدة تفيد بأنه شيف وخبير جودة مطاعم ومستشار مطاعم ومدرب صحة، ونجح في امتلاك مطعمين، وعمل مقدمًا للبرامج التليفزيونية في سوريا ودبى، وكانت أحلامه جلها مرتبطة بالوطن وتحقيق مزيد من النجاح به، حتى إنه في 2011 قرر شراء منزل جديد سعيًا منه لتوسيع أعماله ومشروعاته، ولكن الرياح هبت على سوريا بأكملها بما لا تشتهى السفن، لتنقلب إلى مرتع للحرب والخراب والدمار، وانقلبت معها حياة محمد الخالدى، كغيره من السوريين، ليجد نفسه وجهًا لوجه أمام المجهول، أمام مصير مظلم بلا عنوان.
لم تكن الخيارات أمام محمد متعددة وسط هذا الوضع الضبابي، إما البقاء وسط الدمار وتحمل ويلات الحرب والاستسلام لكل ما قد تأتى به، وإما الرحيل ومحاولة النجاة في أرض من أراضى الله الواسعة، وكان قرار الرحيل والتوكل على الله فيما هو آت هو الذي اتخذه محمد، فخرج في رحلة غامضة المعالم في رمضان عام 2012، وعن أولى خطوات الرحيل يقول: "الأمر لم يكن سهلًا.. أن أترك كل شىء في بلدى وأخرج منها كان أمرا صعبا كتير".
كان اختيار محمد الأول إلى البلد الأقرب، لبنان، اعتقادًا منه وأسرته أن الأزمة السورية لن تستمر طويلًا، ولكن وتيرة الأحداث كانت تتسارع بصورة لا يتوقعها أحد، فقرر بعد 6 شهور أن يتجه إلى أم الدنيا في مزيد من السعى نحو حياة مستقرة ومستقبل أفضل، ولكنه واجه صعوبة جديدة، فلم يتمكن من أن تلحق به أسرته لعدم توفر جوازات السفر الخاصة بهم، فحاول حثيثًا حتى لحقوا به في مصر، حيث استقر معهم عامين، ولكنه لم يكن قادرًا على توفير حياة مناسبة لهم، فاتخذ القرار الأصعب، السفر عبر البحر إلى أوروبا، والذي كما وصفه "يُحكى عنه في مجلدات".
وصل محمد وأسرته إلى إيطاليا بعد رحلة بحرية استغرقت 12 يومًا في عرض البحر لم تخل من الصعاب والخوف على أسرته، ورحل عن إيطاليا "سواح" عبر البلاد الأوروبية المختلفة، ينتقل من واحدة إلى الأخرى بحثًا عن الراحة والاستقرار والحياة المناسبة، وبعد تنقلات عديدة، كانت العاصمة الفرنسية باريس المحطة الأخيرة، حيث وصل وأسرته الصغيرة إلى مدينة الحب والنور وفنون الطبخ في نهاية عام 2015 وحصل على حق اللجوء.
لم يكن الأمر سهلًا أيضًا في باريس، فأن تبدأ من الصفر في بلد أنت غريب فيه ولا تعرف لغته ولا تملك مالًا أو معارف، أمر قاس، ولكن محمد قرر مواجهة الواقع، فبدأ بتقديم دروس في الطبخ لمجموعة عمال في مركز الاستقبال الذي كان يسكن به على حدود باريس، ثم شارك في منظمة الطباخون المهاجرون التي تسعى لتغيير النظرة النمطية لدى الفرنسيين تجاه المهاجرين من خلال الطبخ، وشارك أيضًا في مهرجان "طعام المهاجرين"، الذي يعرض نماذج من ثقافات الشعوب في الطعام ويهدف لدمج الثقافات مع بعضها البعض، وذلك مع الطباخ الفرنسي الشهير ستيفان جيجو حيث قاما معًا بتقديم أطباق مزجت بين المطبخ السورى والفرنسي، وتوالت المناسبات العامة التي شارك فيها محمد، حتى أنه قام بتحضير المأكولات الشامية الشهيرة خلال أسبوع الموضة في باريس عام 2017 والذي يشارك به أشهر مصممى الأزياء في العالم، كما أنه قدم أشهر أطباقه في حفلات استقبال في متحف قصر طوكيو، وقدم أيضًا أطباقه الشهية للرئيس الأمريكي باراك أوباما، وفى قصر الإليزيه للرئيس الفرنسي وكذلك لأنجيلينا جولى.
"في بداية وجودى بباريس.. وبعدما بدأت عملى بـ3 شهور كنت أسير إلى جوار زوجتى، وبينما كنا نسير أمام متحف اللوفر قلت لها: تخيلى لو وضعوا صورتى هنا.. ردت على وقالت لى طموحك بقى كبير أوى"، يحكى محمد، وبالفعل في 2016 ومع كثرة الفعاليات التي شارك فيها ارتأت باريس وضع صورته على مدخل متحف اللوفر، وفى كثير من الساحات، وذلك تكريمًا لجهوده التي بذلها ولكونه أسرع لاجئ يندمج في المجتمع الفرنسي ولتمكنه من تحقيق طفرة في دمج الثقافات.
يعلق محمد على هذا التكريم قائلًا: "كانت فرحة كبيرة ما كانتش متوقعة.. وده منحنا كلنا الأمان، أنا وأولادى وزوجتى، وحسينا إن البلد دى بتقدر الناجحين، وبث فيا أنا طاقة إنى أكمل".
في العام ذاته حصل محمد على لقب سفير المطبخ السورى وسفير الحضارة السورية، وأصبح أحد أشهر طباخى باريس، واحتلت بفضل إبداعاته في عالم الطهى المأكولات الشامية الموائد في كثير من المناسبات والفعاليات الفنية والثقافية والاجتماعية في العاصمة الفرنسية.
ولم تتوقف سلسلة نجاحات الشيف محمد الخالدى، حيث حصل مؤخرًا على جائزة أفضل شيف لاجئ في العالم والمُقدمة من The World Restaurant Awards، والتي اجتمع في حفل توزيع جوائزها أهم صناع الطعام والمناسبات في العالم، وشارك بها 300 محكم دولى، وعن شعوره عند الحصول على هذه الجائزة يقول: " إحساس جميل لا يمكن وصفه.. أنا جيت على البلد دى وما كنت أعرف لغتها ولا أعرف حد فيها ولا كان معايا فلوس ولا شهادات ولا أي مقوم من مقومات النجاح.. كنت زى الأعمى.. غريب.. وبعد 3 سنوات إنى أحقق نجاح وأتكرم كأفضل شيف في العالم فده لوحده حاجة كبيرة مش بس ليا لكن للعرب كلهم وللسوريين كمان".
وبالرغم من قصة النجاح تلك، وهذه الرحلة التي تحمل عنوان الإرادة والإصرار إلا أن الوطن لا يزال في قلبه، ولا يغيب لحظة عن ذهنه، فيتحدث عنه محمد، ذو الـ39 عاما،، تمامًا كأنما يحكى عن حبيبة غائبة: " يوم المنى أرجع لبلدي.. بس دلوقتى صعب".
وبالرغم من الحنين الجارف إلا أن مدى أحلامه تعاظم، وجميعها ترتبط بوطنه سوريا وبالوطن العربى أجمع، فيحلم الخالدى أن يصل بالمطبخ العربي إلى مزيد من العالمية، بالتوسع في نشر المطبخ السورى والعربى، وهى الرسالة التي تشغله ويهتم بها كثيرًا، كما أنه يتمنى أن يفتتح المطعم الذي يحلم به.