ما تيسر من سيرة الأبطال.. ذكريات اللحظات الأخيرة قبل الشهادة ترويها زوجات الشهداء.. «خلي بالك من نفسك» آخر رسائل «العباسي» لزوجته.. «كمال» يزور أباه قبل الاستشهاد.. و
المعركة مستمرة.. وإن اختلفت الأطراف، فمصر التي تحارب الإرهاب حاليًا، وتقدم في حربها المقدسة تلك خيرة أبنائها، هي ذاتها مصر التي واجهت العدوان الثلاثي، وشارك أبطالها في حرب اليمن، وكبدت العدو خسائر في الاستنزاف، ورفعت راية النصر في 6 أكتوبر، وفي كل حرب تدخلها مصر يكون النصر حليفها، وإن كان نصرًا يحمل قليلًا من الحزن.
الشهداء.. رغم ألم الفراق إلا أن مصر تقدم كل يوم سيرة عطرة في الدفاع عن الوطن، رجالها يدافعون عن التراب ضد المغتصب أو الإرهابي، «التطهير» مبدأهم و«التحرير» هدفهم، وفي شهر الشهيد تعيد «فيتو» استحضار لحظات البطولة بلقاء أسر الشهداء، الزوجات والأبناء، الذين رغم اختلافهم في أمور عديدة يتفقون على أن نداء الوطن يجب أن يلبى، مهما كانت التضحيات والتحديات.
«صائد الإرهابيين»
الشهيد مرسي محمد العباسي ابن محافظة الغربية لأكثر من عام ونصف العام ظل في سيناء وتحديدا رفح، غير أنه طوال المدة تلك لم يشأ مصارحة عائلته بمكان خدمته، حتى لا تنتابهم مشاعر القلق طوال أيام ابتعاده عنهم.
«سهام» زوجة الشهيد البطل تروي تفاصيل بطولات زوجها، بصوت لم يخل من حزن وتقول: «زوجي طلب نقله إلى سيناء، لأنه خدم في رفح أثناء ثورة 25 يناير وأثناء حكم الإخوان، ويعرف كل الطرق والمدقات فيها لمشاركة زملائه في العملية الشاملة سيناء 2018، ولم يقل لي شيئا سوى أنه تم نقله إلى محافظة الإسماعيلية».
وتكمل: «مرسي تخرج عام 2006 دفعة 100 حربية سلاح المدرعات، وعرفت بعد استشهاده أنه كان من أمهر قاذفي الدبابات في الجيش الثاني، وكان لا يخطئ هدفه أبدا، وكانت أجازته كل 25 يوما لمدة أسبوع، وقبل أن أنتهى من إفراغ حقيبته أجده يقول لي (أنا راجع تاني عندي مأمورية، ولا بد من العودة إلى قيادة الفرقة سريعا.. فأقول له هو إحنا لسه مشبعناش منك أو قعدت معانا كان يقولي بكرة نقعد مع بعض وتزهقي مني».
لحظات من الصمت خيمت على المكان، سرعان ما تداركتها زوجة البطل الشهيد التي مسحت دموعا لم تستطع منعها، وقالت: «كان مطمني ومخليني معنديش أي شك إنه في سيناء أو مشترك في الحرب على الإرهاب، وإنه هيكون واحد من الشهداء الذين نسمع عنهم نهائي»، وتابعت: «آخر مرة نزل إجازة كان مصابا في ذراعه وقدمه، وعندما سألته أجابني سقطت من على الدبابة، ولكن إصابته كانت نتيجة انفجار لغم بالدبابة، وبسبب حبه لشغله وإخلاصه في عمله لم يهتم بالجرح حتى إن ذراعه عملت غرغرينا من عدم الاهتمام والتغيير على الإصابة، ورغم كل ده لم يمنعه شيء من الشهادة».
وعن تفاصيل إجازته الأخيرة في المنزل، قالت: «ظل معنا لمدة أسبوع، وكان معايا أنا وابنه في منتهي الحب والحنان، لدرجة إني كنت حاسة إنه واحشني وهو قدامي، وقلتله بالله عليك متسافرش تاني خليك معانا رد، وقال لى: هي سايبة مش أنا ضابط وعندي مهام، إزاي أسيب شغلي، وعموما دي آخر سفرية ليا في رفح وبعدها عندي فرقة في القاهرة وهقعد معاكم 6 أشهر».
لحظة الاعتراف بمكان خدمته لم تمر مرور الكرام على الزوجة، التي تروي كيف كانت مشاعرها عندما كشفت لها الصدفة ما كان يخفيه عن رفيق عمرها، وقالت: انتابتني لحظات ذهول، وقلت له «أنت بتقول إنك في الإسماعيلية رفح إزاي.. رد وقال لي: «متشغليش بالك كنت في مأمورية وخلصت وهسافر آخر مرة».. وفعلا كانت المرة الأخيرة التي يسافر فيها إلى رفح، والمرة الأخيرة التي أراه فيها، وأضافت: «قبل استشهاده كان فيه حلم بيلاحقني، وكنت أصحو من النوم مفزوعة، وكان مسبب لي توتر فظيع وأعصابي بايظة، ولما قلت له سألني شوفتيني في الحلم قلت له خير إن شاء الله».
وعن يوم الاستشهاد قالت سهام: «كان كعادته بيتصل بينا بالليل كل يوم، وتاني يوم بعد الساعة 12 لم أكن أعرف أنهم يذهبون إلى المداهمات بعد صلاة الفجر، ويعود الساعة 12 ظهرا كلمني كالعادة، ولكن المكالمة دي كانت غريبة كرر فيها كذا مرة خلي بالك من نفسك وخلي بالك من بودي وهاتي له كل اللي نفسه فيه وفسحيه ومترتبطيش بيا عشان أنا دايما مشغول، ده كان بالليل قبل استشهاده تاني يوم رنيت عليه كتير لكن تليفونه كان مغلق، عشان كنت رايحة للدكتور ومتعودة إني أستأذنه وتخيلت أنه مشغول وهيكلمني لما يخلص شغله، وحاسه بحاجة غريبة كأن روحي بتتسحب مني ومش عارفة السبب، وأنا راجعة من عند الدكتور لقيت حد بيتصل بأختي وهي بتردد يا عيني عليكي يا أختي، قلت لها فيه حاجة في مرسي؟ووقعت مغشيًا على ولم أدر بنفسي إلا وأنا في البيت والكل حولي بيقولوا شدي حيلك مرسي استشهد».
وأكملت: «لم أكن أتوقع أبدا استشهاده لأنه كان مطمني وعمره ما اتكلم على حاجة في شغله أبدا، لكن كان فيه علامات تلاحقني، وأنا أحاول عدم الاهتمام بها حتى لا أشغله.. وبعد استشهاده جاء لي قائده، وقال لي إن مرسي كان من أمهر وأشهر الرماة في سلاح المدرعات، واكتشف العديد من البؤر الإرهابية والأنفاق للعناصر الجهادية في الجبال والوديان برفح.. يوم استشهاده كان خارج في مداهمة، والعناصر الإرهابية لغمت الطريق والدبابة مرت على أول لغم، ولم يحدث فيها شيء ثم اللغم الثاني، وأيضا لم يصب أحد في الدبابة، ولكن حدث بها عطل، وكان كعادته يصلح العطل بنفسه فنزل من الدبابة، لكن طلقة الغدر من قناص إرهابي خسيس أصابته أسفل الرأس واستشهد في الحال.. تركني وترك ابنه 4 سنين وهو يدافع عن الأرض».
«طلب الشهادة ونالها»
الشهيد البطل العميد أحمد كمال، قائد ثانٍ بإحدى الكتائب في الجيش الثالث بالسويس، تم انتدابه لمدة 6 أشهر للاشتراك في «عملية حق الشهيد 2» بسيناء، وأتمها محققا خلالها نجاحات شهد له بها قادته وزملاؤه، وحصل على شهادة تقدير من وزير الدفاع وقائد الجيش الثالث، لكن نظرا لنجاحه تم انتدابه مرة أخرى لـ6 أشهر أيضا، وخلال الأسبوع الأخير والذي جاء متزامنًا والأسبوع الأخير في شهر رمضان قبل نهاية المدة الثانية، جمع البطل أغراضه من سيناء انتظارا للنقل، لكن أثناء إحدى المداهمات فجر الإرهابيون السيارة التي كان بها أول الفوج الأمني للمداهمات ومعه 3 عساكر، وعندما حاول الطبيب إسعافه رغم إصابته، طالبه بأن يسعف العسكري المصاب إلى جواره لينال هو شرف الشهادة.
سماح بدوي، زوجة الشهيد ابن محافظة القليوبية قالت: « فخورة لأنني زوجة شهيد، غير أن ألم الفراق يعتصر قلبي، فزوجي الشهيد كان لي ولأولاده الأب والصديق والسند، وعزائي الوحيد أنه شهيد وحي، يحيط بنا في كل مكان، وأضافت: «تزوجت أحمد منذ 16 عاما، وربنا رزقنا بابنتنا داليا في الصف الثالث الثانوي، ومحمد في الصف الثالث الإعدادي، كان أحمد يمثل لنا كل شيء، أبناؤه يعشقونه رغم عمله الصعب إلا أنه لم يغب عنا كثيرا، فكان يغدق علينا بحبه وحنانه، ولا يبخل علينا بشيء مهما كان، يتعامل مع أولاده كأخ وصديق».
وتابعت: «لما كان بينزل إجازة وتحصل اشتباكات في سيناء وأشوف جنازات الشهداء قلبي يتقطع، وأقول له عشان خاطري أنا وولادك استقيل وشوف أي شغل تاني.. كان يرد عليا قائلا: مصر تستاهل إننا نضحي عشانها، ولما أنا أسيب شغلي مين يدافع عن البلد وعنكم، وبعدين لو استقلت مش هموت؟! لا هموت بس أموت بشرف، وأنا بدافع عن بلدي، ولا أموت زي أي حد كل نفس ذائقة الموت».
وأكملت: أحمد كان إنسانا ملتزما يصلي وحافظا للقرآن وبارا بوالديه، قبل آخر إجازة كان والده في المستشفى قعد معاه أسبوع وهو في العناية، كان بيقعد في الأرض والإجازة الأخيرة وقبل استشهاده بثلاثة أيام نزل ليلة العيد.. وكأنه بيودعه، لذلك لم يحتمل والده وتوفى بعده على طول، لأنه كان أصغر أبنائه ومدللا، وكان يكن له الحب الكثير»، واختتمت زوجة الشهيد حديثها قائلة: «أحمد ترك لنا الفخر والعزة كما كان يتمنى أن نكون أحسن ناس، ولكن مرارة الفراق لا يشعر بها إلا أبناؤه الذين أصبحوا أيتاما بعده، وأصبحت المسئولية كبيرة عليّا، وأنا فخورة لأنني زوجة شهيد وبطل».
«الطلقة راحت لصاحبها»
بسمة عبد النبي، زوجة الشهيد محمود طلعت زيادة، ابن محافظة الإسكندرية، تروي لنا ملامح من حياة زوجها البطل قائلة: «محمود كان بطلا من يومه، تشعر فيه بأنه قائد منذ تخرجه عام 1997 بسلاح المدرعات، خدم في السلوم، وكان مثالا يحتذى به في العمل ومعاملة زملائه الضباط والعساكر، الكل يحبونه ويحترمونه، وتزوجت محمود منذ 5 سنوات، ورزقنا الله بمليكة 4 سنين وتاليا 3 سنين، كانوا نور عينيه كما يقول دائما بيحبهم حب غريب.
بعد عمله لمدة عام في الإسكندرية، انتقل إلى قوات التدخل السريع تحديدًا عام 2014، وفي 2016 انتقل للعمل في سيناء كقائد ثانٍ لكتيبة صاعقة في منطقة القاسمية»، وأكملت: «محمود كان يمتاز في عمله بالإقدام يتقدم المأموريات والمداهمات، وبينزل إجازات كل 40 أو 50 يوما، وبعد نقله لسيناء أصبح ينتابه قلق غريب كل مرة ينزل إجازة بحاول فيها يلبي كل طلباتنا ويفسحني أنا والبنات، وكان بيحكيلي على اللي بيحصل في سيناء كنت بموت كل ما بسمع، وأقول له أنا خايفة عليك جدا يقولي هو حد يطول يبقي شهيد (دي الطلقة بتطلع باسم صاحبها) ومحدش يقدر يمنعها في سيناء في إسكندرية متفرقش، وكلنا هنموت بس في فرق بين إني أموت زي أي حد عادي وادفن وإني أنال الشهادة.. ده كان كلامه اللي كان بيزود قلقي إنه مقبل على الشهادة بصدر رحب دون خوف»،.
وقالت: «قبل استشهاده بأسبوعين كان في إجازة، وحدث هجوم إرهابي استشهد فيه 21 ضابط جيش وشرطة، ومنهم المقدم محمد الخولي، كان حزينا جدا عليه، وقعد أسبوع يعيط على فراقه، وكأنه كان عارف أنه هيحصله قريبا، وآخر إجازة قبل استشهاده كان هادئا جدا، وعلى وجهه علامات حزن لم أرها أبدا طوال 5 سنوات، فتملكني شعور بالخوف، ولم أستطع إمساك دموعي أمامه، لكنه كان دائما يطمني ويقول ربنا هينصرنا عليهم إن شاء الله، وهنجيب حق مصر وحق الشهداء لأننا على حق وهم على باطل، وظل يحضنني أنا والبنات، واستعد للسفر كل ما يوصل للباب يرجع تاني أكثر من 3 مرات ويقولي هتوحشوني قوي خلي بالك من نفسك ومن البنات».
وأضافت: يوم 22 أبريل كانت العملية الشاملة سيناء 2018 بدأت، وعزموا على اقتحام جبل الحلال الذي تختبئ فيه العناصر الإرهابية الخطرة، زملاؤه قالوا لي إنه خرج في مهمة استطلاع يوم 21 ليلًا، ورأى التكفيريين وعملوا خطة لاقتحام الجبل، وفي فجر 22 أبريل كلمني قبل صلاة الفجر، وكان صوته حزين جدا لكن حاول يطمني، وقال لي هنقضي عليهم إن شاء الله، إحنا هنخرج مأمورية بعد صلاة الفجر ادعيلي وقفل، دي كانت آخر مرة أسمع صوته.
وأكملت: «صلوا الفجر وصعدوا جبل الحلال، محمود فضل يضرب عليهم نار، زملاؤه قالوا إنها كانت حربا حقيقية، كان عدد التكفيريين كبيرا وبيضربوا بكل أنواع الأسلحة، وفوق جبل الحلال أصاب قناص محمود بطلقة اخترقت كتفه، وخرجت من بطنه فسقط شهيدا، واستمرت الحرب إلى اليوم الثاني، ولم يستطع زملاؤه إخلاء جثمانه إلا بعد أن تمكنوا من القضاء على عدد كبير من التكفيريين، والباقي هرب أمام رجالنا»، وتابعت: «الغريب أن الجثمان رغم مرور يومين عليه إلا أن دمه كان ساخنًا، وكان ينزف يقول العسكري اللي أحضر الجثمان من على الجبل لم أر جثمانا ينزف بعد 48 ساعة من استشهاده ورائحه دمه تفوح منها رائحة المسك ودمه أغرق الأفرول الذي كنت أرتديه.. وفعلا استلمت الجثمان بعد ثلاثة أيام من استشهاده، كان جسمه دافئا ووجه باسما طريا لم يكن ميتا بل نائما يضحك، فعلا كنت أسمع عن الشهداء بأنهم أحياء، ولكني لم أر الحقيقة إلا على وجه حبيبي محمود.. محمود ترك الدنيا لكنه باقٍ في السماء، فأنا أراه كل يوم في منامي».