الجزائر على مشارف المجهول
تتابع الدول الأوروبية الكبرى كما العربية بقلق تطورات الوضع في الجزائر، واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية لتشمل أنحاء البلاد ضد ترشح الرئيس "عبدالعزيز بوتفليقة" لعهدة خامسة رغم مرضه وتقدمه في السن، وباستثناء فرنسا التي أصدرت بيانا حذرا أكدت فيه حق الجزائريين في اختيار الحاكم، التزم البقية الصمت على أمل المحافظة على سلمية حراك الشارع وألا تنزلق الأمور إلى العنف وتخرج عن السيطرة، لأن أول رد فعل سيكون نزوح عشرات آلاف الجزائريين باتجاه أوروبا.
لم تبد الدبلوماسية الألمانية رد فعل معلن وبقيت على هدوئها المعتاد، وإن أوعزت لإحدى منصاتها الإلكترونية باستفتاء رأي الجزائريين عبر "فيس بوك وتويتر" بشأن ترشح "بوتفليقة"، وأسفر الاستفتاء بعد انتهاء مدة التصويت عن رفض 93.5% من المشاركين، وموافقة 6.5% فقط على ترشحه.
التزم جيش الجزائر كذلك الصمت حتى يوم أمس، حين بث التليفزيون كلمة "أحمد قايد صالح" رئيس أركان الجيش نائب وزير الدفاع، أكد فيها أن الجيش سيحفظ الأمن ولن يسمح بسفك الدماء، وحذر من "بعض الأطراف يزعجها أن تكون الجزائر آمنة ومستقرة، ويريدون أن يعودوا بها إلى سنوات الألم والجمر". في إشارة إلى "العشرية السوداء" التي شهدت خلالها الجزائر صراعا دمويا خلال التسعينيات.
أتت كلمة الجيش بعد أن حذر مراقبون من تصاعد المشهد الاحتجاجي الراهن، بعدما بدأ طلاب الجامعة "العصيان المدني" وسينضم إليهم فئات أخرى، لإجبار "بوتفليقة" على سحب ترشحه، ويخشى الجميع أن يتطور العصيان المدني من السلمية إلى العنف، بعد أن حطم الجزائريون جدار الخوف والاستسلام للواقع، ما يضع البلد على مشارف المجهول، خصوصا أن أغلب أصدقاء الرئيس الجزائري تظاهروا ضد ترشحه وعلى رأسهم المناضلة "جميلة بوحيرد".
لا يمكن التشكيك في أن الشعب يريد تغيير النظام، خصوصا بعد مرض الرئيس "بوتفليقة" منذ 5 سنوات وعدم قدرته على التواصل مع الشعب أو الإطلالة عليه، فزاد تفشي الفساد والفقر والظلم، رغم أن الجزائر ثرية بالموارد التي تحتكرها طبقة معينة.
ومع هذا هناك دلائل عدة تثبت أن أطرافا ما تدفع لتأجيج الوضع وخلط الأوراق، بعدما أفلتت الجزائر من مؤامرة "الربيع العربي"، وإلا كيف نفسر تسريب بعض وثائق الاستخبارات الفرنسية تفيد بأن "بوتفليقة" دبر الانقلاب على الرئيس "أحمد بن بلة" لتنامي خلافاتهما عندما كان الأول أصغر وزير خارجية في العالم، لكن رغم صغر سنه كان يملك "ذكاءً حادًا وطموحا كبيرًا"، جعله قريبا من الرئيس التالي "هواري بومدين".
حتى أنه تمكن بخدعة من تحجيم دور زوجة الرئيس لأن علاقته بها لم تكن جيدة، وأقنع زوجها بإبعادها عن الأضواء. وتشير التسريبات الفرنسية إلى دور "بوتفليقة" في اغتيالات عدة وقضايا فساد موازية، فضلا عن حكم قضائي ضده بفرنسا في قضايا مالية، حتى تم إبعاده عن الجزائر سنوات طويلة إلى أن عاد إليها رئيسا.
التسريب الثاني تسجيل اتصال هاتفي بين "عبد المالك سلال" رئيس الوزراء الأسبق مدير الحملة الانتخابية لـ"بوتفليقة"، مع "على حداد" رجل الأعمال المقرّب من النظام، تضمن جزءًا من خططهما تجاه الاحتجاجات واستمرار المظاهرات الرافضة ترشح "بوتفليقة"، وأن جهاز الدرك سيرّد بقوة إذا لجأ المتظاهرون للعنف، كما هدد "سلال" أنّه سيطلق النار إن تعرض لأيّ اعتداء.
دعم صحة التسجيل الهاتفي المسرب إعلان إقالة مسئول في الاستخبارات الجزائرية، وبعدها مباشرة إعفاء "عبد المالك السلال" وتعيين وزير النقل "عبد الغني زعلان" مديرا لحملة "بوتفليقة" الانتخابية. ما يعني أن الجهة التي سربت المحادثة الهاتفية تعارض العهدة الخامسة للرئيس، لكنها أيضا ليست مع الشارع، وربما تكشف خلال الأيام المقبلة عمن تريد دفعه لسدة الحكم!
كان لافتا ما حدث بشأن حضور المرشح شخصيا، فقبل انتهاء المهلة أثيرت هذه النقطة، وأفاد خبراء الدستور الجزائري أن "الدستور لا يتضمن ما يستوجب الحضور الشخصي للمرشح، ولا مانع إذا قدم الملف من طرف مفوض من المعني".
لكن مع عدم عودة "بوتفليقة" من سويسرا، أطل خبير دستوري ثان أكد أن "الدستور كفل الترشح بالوكالة، لكن القانون الداخلي للمجلس الدستوري يوجب الحضور الشخصي للمعني، وعليه يتوجب الاستظهار بوثيقة وكالة رسمية". وقبل إعلان "بوتفليقة" الذي تلاه مدير حملته "عبد الغني زعلان"، قال رئيس الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات "عبدالوهاب دربال": "إن على كل المرشحين في الانتخابات الرئاسية تقديم ملفات ترشحهم شخصيا".
وإذا جرى تطبيق ذلك فعليا، فإنه سيعني أن "بوتفليقة" لن يخوض الانتخابات لاستحالة حضوره شخصيا بسبب مرضه وعدم قدرته على التحدث للشعب.
الإصرار على رفض ترشح "بوتفليقة" زاد بعد وعوده للشعب التي تلاها مدير حملته ورد عليها رئيس الوزراء الأسبق رئيس حزب طلائع الكرامة، "على بن فليس" بأن: (رسالة "بوتفليقة" استخفاف بالجزائريين، وترشحه لعهدة خامسة بحالته الصحية الحالية أمر غير دستوري، وسيشعل الجزائر.. لأن قوى غير دستورية استولت على صلاحيات الرئيس وهي التي تدير الأمور بدلا منه. ما يحدث مهزلة ولا مخرج من الأزمة إلا باستبعاد "بوتفليقة").
استمرار الاحتجاجات والعصيان قد يؤدي إلى مزيد من التنازلات، ويضطر الفريق الحاكم إلى إعلان انسحاب "بوتفليقة" من انتخابات الرئاسة، إذا لم تنجح وعوده في تهدئة الغضب الشعبي. وفي هذه الحالة، سيظل الأمر رهنا بالقرار الذي يتخذه الجيش والجهة التي ينحاز إليها.