رئيس التحرير
عصام كامل

الرحلة الدافئة


(أثناء عملي في العيادة، دخل حجرة الكشف زوجان وبمجرد اقترابهما من مكتبي لاحظت أن الزوج قام بسحب الكرسي لكى تجلس زوجته أولا، ثم عندما قمت كي أفحصه بعد أن عرفت أنه صاحب الشكوى سبقتني الزوجة ورفعت بنفسها ملابسه وكأنها تفعل هذا لابنها، وأثناء فحصي له لاحظت لهفتها وخوفها عليه، وبعد أن انتهيت من فحصه قامت بمساعدته في ارتداء ملابسه وأخذت تهندمها بهدوء، فرد عليها قائلا: «شكرًا ربنا يبارك في صحتك ويخليكي ليا»، وعندما غادرا الحجرة لم يخرج إلا بعدها).


كانت هذه كلمات أحد كبار الأطباء، أراد بها أن يصور مشهدا واقعيا لأسرة متماسكة، ونموذج راقى، نصادفه كثيرا، يحترم شريك الحياة ويقدره، فيعاملها كأنما كانت ابنته التي خرجت من صلبه، وتعامله كأنما كان ابنها الذي خرج من رحمها، فتسمو العلاقة الزوجية وترتقى، وتصعد درجات ودرجات على سلم المحبة والاحترام المتبادل، والاهتمام والمشاركة والتعاون، بلا أي حرج أن يكون هذا الحب والتكامل على مرأى ومسمع من الجميع.

سعادة غامرة حينما أرى زوجين بلغ بهما العمر مبلغه، وتفرق الأولاد كل إلى طريق، ويكمل هذان الزوجان مسيرتهما في الحياة، متأبطا كل منهما ذراع الآخر، سند ومتكأ، وقد أدركا أنهما بعد مسيرة السنوات الطوال، أصبحا روحا واحدة تسير داخل جسدين، فيكملان ما تبقى من رحلة العمر، متمنيين أن يسبق كل منهما الآخر إلى الدار الآخرة، كى لا يرى مكروها في شريك رحلته، فيفجع فيه.

كنت أرى دائما هذا الرجل الستينى القاطن أمام مقر عملى وهو يهم بالنزول مع زوجته لشراء بعض الأغراض اليومية، وفي أحد الأيام تعثرت قدما زوجته وسقطت على الأرض، وعلق بملابسها الكثير من غبار الشارع، فأنهضها بحنو بالغ، مهندما لها ملابسها، مقبلا يدها ورأسها، تطييبا لها على تلك الآلام التي حلت بها، بشعور عفوى من محبة جارفة لشخص تلخصت فيه حياته وأيامه وتفاصيل رحلته كاملة.

وهناك أيضا هذا الجار الطيب الذي لايتأفف مطلقا، أن يقف في بلكون منزله أمام الجميع، ويساعد زوجته في نشر الملابس، غير عابئ بما قد يتغامز به ذوو النفوس الخبيثة، إلا محبة منه ورغبته في معاونة زوجته وقناعته بأن دفة الحياة تحتاج إلى شخصين وإلى اقتسام المسئوليات والأعباء.

تلك الرحلة الدافئة، رحلة التفضيل والتقدير والعطاء والأمان والاطمئنان، رحلة الحب الأبدى، أن تكون لك أما وزوجة، وتكن لها أبا وزوج، أن تعطى القدوة والنموذج الحسن لأجيال عدة، لم تعد ترى الحب الأسرى الخالص، والتقدير العفوى، واحترام دعامة الحياة، فأصبحت ترى تماسك الأسرة نوعا من الأساطير، نعم الكثيرون متزوجون، لكن القليلين فقط هم شركاء رحلة الحياة.
الجريدة الرسمية