نعمة النعم

نعمة عظيمة، قيمتها كبيرة، لو أدركنا أنها سبب الخير والتوفيق والسعادة والبركة والفلاح، ما رفضناها وما أهملناها، وما تركناها يوما نهشا لأنياب الوحدة والوحشة القاسية، فيأذن الله بزوال تلك النعمة، فنعض بعدها أذرع الندم، وليس مجرد أصابع معدودة.

منشور طالعته بالصور عبر «فيس بوك»، ولا أعلم مدى صدقه، لكنه يتكرر ونسمع به أحيانا كثيرة، بين وقت وآخر في صفحات الحوادث، ويكون المانشيت العريض له: (العثور على جثة عجوز متحللة في شقتها).

هذا المنشور المؤلم تحدث عن امرأة مسنة كانت تعيش بمفردها، وتزورها ابنتها الوحيدة بين الحين والآخر، وفجأة اختفت تلك الأم عن أنظار الجيران مدة كبيرة من الزمن تجاوزت أسبوعين أو أكثر، إلى أن بدأت رائحة تعفن شديد تتسلل عبر جدران العقار، وتصل إلى أنوف الجيران، واعتزموا بعد التشاور فيما بينهم اقتحام الشقة لكشف حقيقة تلك الرائحة البشعة، خاصة وأن حدسهم ألهمهم أنه ربما أصاب الجارة المسنة مكروها، وفور كسر باب الشقة، وجدوا جثمانها مسجيا في أحد جنبات الصالة، في حالة تعفن شديد، بل تحلل، واستدعوا الشرطة على الفور، وبالتوصل إلى ابنتها والتحقيق معها تبين أنها لم تزر أمها المريضة منذ قرابة الشهر ونصف الشهر، ولم تكن تعلم عنها أي شيء!.

هل تخيلتها؟، أن تربي وتكافح وتشقى من أجل أبنائك، ثم ينصرف كل إلى حياته وينساك، فينتهى بك المطاف جثة متحللة في فراشك، أو إحدى زوايا شقتك، بلا غُسل أو حتى إكرام؟، هل تخيلتها واستوعبت مدى بشاعة الأمر؟.

أذكر جاري الشاب، وقد كان محبًا لوالده طيب الله ثراه، وكان يزوره يوميا كى يطمئن عليه كونه يعيش بمفرده عقب وفاة الأم، وغالبا كان يقوم هو وإخوته بتبادل الإقامة بالأسابيع لدى الوالد، كى لا يتركاه وحيدا.

وذات يوم تركه مساء بعد أن تناول معه طعام العشاء، متجها صوب منزله، وكان معتادًا أن يتصل به هاتفيا لإيقاظه لصلاة الفجر، واتصل به عدد مرات تفوق الخمس وثلاثين مرة على هاتف المنزل، هاتفه المحمول، ولا إجابة، واعتزم الشاب الذهاب إلى منزل والده فورا، وقد كان سكنه يبعد عن سكن والده بمقدار نصف ساعة بالسيارة تقريبا، ووصل إلى البيت، وأيضا لا إجابة.

كافة الهواتف لا ترد، جرس الباب لا يجدى، الطرق المتواصل بكلتا يديه على الباب لم يفلح، ولم يدر الشاب إلا وهو مقتحم باب الشقة بجسده وبكل ما أوتي من قوة، وقد فتك القلق بقلبه، وداهمته كل السيناريوهات السوداء، وما أن ارتمى على الأريكة في الصالة نتيجة قوة الاندفاع، حتى وجد أباه قد استيقظ من فوره على وقع كسر باب الشقة مذعورا، ووجد ابنه في هذه الحالة، وأدرك أن القلق أكل عقله، فهدأ من روعه، وأخبره أن سبب نومه العميق هذا كثرة الأدوية، خاصة الدواء الجديد الذي كتبه له الطبيب مؤخرًا، والذي حذره أن من أعراضه النوم العميق، عم الصمت المكان، ولم ينبس الشاب ببنت شفة، فقد كان في حضرة أبيه، وكان كل غايته أن يراه يحيا ويتنفس فقط.

إعلان مصور يدعو لأهمية الارتقاء بالتواصل بين الأهل، من مجرد تواصل إلكترونى، إلى تواصل مكانى حى، وخاصة مع الآباء والأمهات، تواصل بعيد عن مجرد رسالة «واتس آب» أو «فيس بوك»، يصور الإعلان أب وأم وقد بلغ بهما الكبر عتيا، يجلسان على طاولة طعام معدة بأفخر الأصناف، بينما المقاعد تشغلها هواتف محمولة محل أبنائهما، وينطق كل هاتف منها برسالة مثل (كيفك يا أمى) (كل عام وأنت بخير يا أبي) (وحشتونا)، ويبين الإعلان كم الأسي والحسرة في عينى الأب والأم على هذا التواصل غير المحسوس، ثم يتبدل المشهد في الجزء الثانى من الإعلان إلى وجود حى للأبناء على نفس الطاولة بدلا من هواتفهم، يأكلون ويمزحون ويضحكون على المائدة مع الأب والأم، في فرحة بالغة وحالة من السعادة تعم الجميع.

مرة أخرى، هل تخيلت أن تموت وحيدا؟، هل تخيلت أن يتسلم ذووك جثمانك متحللا، أو أن تدفن في مقابر الصدقات؟، هل تخيلت أن تبذل كل ما في وسعك لسعادة أبنائك ثم يبخلون عليك بجزء من الوقت والرعاية والاهتمام، مهما كانت ظروفهم؟.

لو تخيلت هذا ولم تقبله على نفسك، بل وأشعرك بالرهبة والوحشة، فلم تطقه مطلقًا، راجع حسابات نفسك مع أباك وأمك لو كانا على قيد الحياة، ويعيشان سويا، أو يعيش أحدهما بمفرده، جدول لهما أولوية اطمئنان مطلقة في مفكرتك اليومية تكون رقم (1)، تبدأ بها يومك صباحًا وتختتمه بها مسًاء، تابعهما عن كثب مثلما تتابع أولادك، فهم أيضا أولادك، داهمتهم الشيخوخة والهرم، وأصبحا يحتاجان السؤال والاهتمام، يشتاقان إلى ودك واطمئنانك، استمتع بهما، ولا تكن جاحدا، كافرًا بأم النعم في حياتك، حافظ على «نعمة النعم أبيك وأمك».