رئيس التحرير
عصام كامل

مظلة الرحمة


منشور صادفته عبر صفحات «فيس بوك»، مدعما بالصور لسيدة مسنة تفترش أحد المساجد، ويقول المنشور: إن ابنة هذه السيدة طردتها من بيتها للشارع، بعد أن أوهمتها أنها ستستخرج لها أوراق المعاش، وجعلتها توقع على أوراق بيع منزلها، مستغلة حُسن نيتها، ثم تركتها تهيم على وجهها في الشوارع، وتبيت في المساجد، وناشدت السيدة المسنة أهل الخير أن ينشروا صورتها في كل مكان بهدف إيجاد مكان لإيوائها في أواخر أيامها، أو لكى يرق قلب ابنتها عليها وتعيدها إلى بيتها!.


يوم أن توفيت أمى إلى رحاب الله، منذ ما يقرب من ١٤ عاما، كان هذا إيذانا بمرحلة جديدة في حياتى، تخلو من لمسات الرحمة أو الدفء أو يد تطبطب وتخفف وتهون، وتبدل الحال وأصبح لزاما أن أواجه هذا العالم الموحش بدون الدرع الواقى لحياتى «أمى».

أيام وأيام أحاول استيعاب وفاتها، عبث الشيطان برأسي أيما عبث، موسوسا: «أمك لم تمت هي مجرد غيبوبة، اذهب إلى المقابر وانبش، ستجدها حية، لقد دفنتموها بالخطأ، لاتتركها».

وبعد فترة صعبة من الوساوس استوعبت بمساندة أبي وزوجتى أن وفاتها حقيقة، وأمر نافذ بإرادة الله، وأن الأطباء بذلوا ما في استطاعتهم في محاولة إنقاذ حياتها، وأن كل ما يساورنى هو مجرد وساوس شيطان، ستذهب بكثرة الدعاء، واليقين بأنها في معية الرحمن الرحيم.

أحن كثيرا إلى بقاياها المُرتبة بين طيات ملابسي، إلى نظارتها السميكة، منديلها القماشى، سجادة الصلاة، مصحفها ذى الأحرف الكبيرة، مسبحتها الخشبية، أشياء أستنشق بها رائحة أمى، فيأنس القلب وترتاح الروح، على أمل اللقاء.

قسوت أنا وغفرت هي، أهملت واهتمت، قصرت وأعطت، نسيت وتذكرت، نمت وسهرت، مرضت وطببت، حزنت وطبطبت، كل هذا دون ملل أو كلل أو شكوي، بل كان بلسما طيبا على قلبها الصغير الدافئ.

يا من تهينون أمهاتكم، وتحولون حياتهن إلى جحيم، فتكدرون عليهن لحظات العمر الباقية، وتأبون أن يعشنها في هدوء وسلام وسكينة، ستدور الدائرة عليكم يوما، وكل حرف نطقتموه غلظة أو رحمة، في وجههن الكريم، سيرد إليكم في كبركم من أبنائكم الصاع صاعين.

دعوة لمراجعة النفس لكل من يستغل أن الأم دائما تصفح وتعفو، فيتمادى في أفعال القسوة والعقوق والإهانة والسخط، سيأتى عليك يوم تتضرع إلى الله أن يعيدها إليك لحظات كى تقف على أعتاب أقدامها ممرغا وجهك في تراب نعل حذائها، ترجو منها الحماية والدعاء والعطف، تتمنى مسحة حانية منها تذوب بها هموم الدنيا كافة، فما كانت من نزعت عنك أوساخك وأقذارك في الصغر، وتحملتها منك لفظا وفعلا بطيب خاطر في الكبر، أن تلقى يوما أو حتى لحظة واحدة هوانا وأذى، فوقرها في حياتها، برها وارحمها، قبل أن تفارقك إلى غير رجعة مظلة الرحمة الأبدية.
الجريدة الرسمية